فصل: باب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: شرح صحيح البخاري لابن بطال ***


باب الإذْخِرِ وَالْحَشِيشِ فِى الْقَبْرِ

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاس، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏حَرَّمَ اللَّهُ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأحَدٍ قَبْلِى وَلا تَحِلَّ لأحَدٍ بَعْدِى، أُحِلَّتْ لِى سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ، لا يُخْتَلَى خَلاهَا، وَلا يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلا يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلا تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إِلا لِمُعَرِّفٍ‏)‏، قَالَ الْعَبَّاسُ‏:‏ إِلا الإذْخِرَ لِصَاغَتِنَا وَقُبُورِنَا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِلا الإذْخِرَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ اتفق العلماء على جواز قطع الإذخر خاصة من منبته بمكة، وأن غيره من النبات محرم قطعه، وأما الحشيش فإنه الورق الساقط والعشب المنكسر، ويجوز عند العلماء استعماله، وإنما يحرم قطعه من منبته فقط‏.‏

وفى هذا الحديث جواز استعمال الإذخر وما جانسه من الحشيش الطيب الرائحة فى قبور الأموات، وأهل مكة يستعملون من الإذخر دريره ويطيبون بها أكفان الموتى، ففهم البخارى أن ما كان من النبات فى معنى الإذخر، فهو داخل فى الإباحة، كما أن المسك وما جانسه من الطيب فى الحنوط داخل فى معنى إباحة الكافور للميت، وسيأتى معنى هذا الحديث فى آخر كتاب الحج فى أبواب أحكام الحرم، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب هَلْ يُخْرَجُ الْمَيِّتُ مِنَ الْقَبْرِ وَاللَّحْدِ لِعِلَّةٍ

- فيه‏:‏ جَابِر، أَتَى النّبِىّ صلى الله عليه وسلم عَبْدَاللَّهِ بْنَ أُبَىٍّ بَعْدَ مَا أُدْخِلَ حُفْرَتَهُ، فَأَمَرَ بِهِ، فَأُخْرِجَ، فَوَضَعَهُ عَلَى رُكْبَتَيْهِ، وَنَفَثَ عَلَيْهِ مِنْ رِيقِهِ، وَأَلْبَسَهُ قَمِيصَهُ، فَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَكَانَ كَسَا عَبَّاسًا قَمِيصًا‏.‏

وقال أَبُو هَرُيرة‏:‏ وَكَانَ عَلَى النّبِىّ صلى الله عليه وسلم قَمِيصَانِ، فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبْدِاللَّهِ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلْبِسْ أَبِى قَمِيصَكَ الَّذِى يَلِى جِسْدَكَ، قَالَ سُفْيَانُ‏:‏ فَيُرَوْنَ أَنَّ النَّبِىَّ، عليه الصلاة والسلام، أَلْبَسَ عَبْدَاللَّهِ قَمِيصَهُ مُكَافَأَةً لِمَا صَنَعَ‏.‏

- وفيه‏:‏ جَابِر، لَمَّا حَضَرَ أُحُدٌ دَعَانِى أَبِى مِنَ اللَّيْلِ، فَقَالَ‏:‏ مَا أُرَانِى إِلا مَقْتُولا فِى أَوَّلِ مَنْ يُقْتَلُ مِنْ أَصْحَابِ رسول اللّه، وَإِنِّى لا أَتْرُكُ بَعْدِى أَعَزَّ عَلَىَّ مِنْكَ غَيْرَ نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَإِنَّ عَلَىَّ دَيْنًا فَاقْضِ، وَاسْتَوْصِ بِأَخَوَاتِكَ خَيْرًا، فَأَصْبَحْنَا، فَكَانَ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَدُفِنَ مَعَهُ آخَرُ فِى قَبْره، ثُمَّ لَمْ تَطِبْ نَفْسِى أَنْ أَتْرُكَهُ مَعَ آخَرِ، فَاسْتَخْرَجْتُهُ بَعْدَ سِتَّةِ أَشْهُرٍ، فَإِذَا هُوَ كَيَوْمِ وَضَعْتُهُ هُنَيَّةً غَيْرَ أُذُنِهِ‏.‏

قال المهلب‏:‏ فى هذا الحديث جواز إخراج الميت بعد ما يدفن إذا كان لذلك معنى، مثل أن ينسى غسله أو ما أشبه ذلك‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ اختلف العلماء فى النبش عمن دفن ولم يغسل، فكلهم يجيز إخراجه وغسله، هذا قول مالك، والثورى، والشافعى، إلا أن مالكًا، قال‏:‏ ما لم يتغير، فى رواية على بن زياد عنه‏.‏

وقال أبو حنيفة وأصحابه‏:‏ إذا وضع فى اللحد وغطى بالتراب، ولم يغسل، لم ينبغ لهم أن ينبشوه من قبره، وهو قول أشهب، والقول الأول أصح، بدليل حديث جابر‏.‏

ولذلك اختلفوا فيمن دفن بغير صلاة، قال ابن القاسم‏:‏ يخرج بحدثان ذلك ما لم يتغير حتى يغسل ويصلى عليه‏.‏

وهو قول سحنون، وقال أشهب‏:‏ إن ذكروا ذلك قبل أن يهال عليه التراب، أخرج وصلى عليه، وأن أهالوا عليه التراب، فليترك، وإن لم يُصل عليه، وروى ابن نافع، عن مالك فى ‏(‏المسبوط‏)‏‏:‏ إذا نُسيت الصلاة على الميت حتى يفرغ من دفنه، لا أرى أن ينبشوه لذلك، ولا يصلى على قبره، ولكن يدعون له‏.‏

ومن كتاب ابن سحنون‏:‏ وإذا نسوا فى القبر ثوبًا، أو كساءً لرجل، فإنه ينبش ويخرج، وفى العتبية، قال سحنون‏:‏ ولو ادعى رجل أن الثوب الذى على الكفن له أو كان خاتمًا أو دينارًا، فإن كان ذلك يعرف، أو أقرَّ بِهِ أهل الميت، ولم يَدَّعُوه لهم أو للميت، جعل لهم سبيل إلى إخراج الميت‏.‏

وفى سماع عيسى عن ابن القاسم‏:‏ إذا دفن فى ثوب ليس له فلينبش لإخراجه لربه، إلا بأن يطول أو يروح الميت فلا أرى لذلك سبيلاً‏.‏

وفى قول جابر‏:‏ ‏(‏نفث عليه من ريقه‏)‏ حجة على من قال‏:‏ إن ريق ابن آدم ونخامته نجس، وهو قول يروى عن سلمان الفارسى، والعلماء كلهم على خلافه، والسنن وردت بردِّه، ومعاذ الله أن يكون ريق النبى نجسًا، وينفثه على وجه التبرك به، وهو صلى الله عليه عَلَّمنا النظافة والطهارة، وبه طهرنا الله من الأدناس‏.‏

وجماعة الفقهاء يقولون بطهارة ريق ابن آدم ونخامته على نص هذا الحديث، وفيه أن الشهداء لا تأكل الأرض لحومهم، ويمكن أن يكون ذلك فى قتلى أُحُد خاصة، ويمكن أن يشركهم فى ذلك غيرهم ممن خصه الله بذلك من خيار خلقه، ومثل هذا الحديث ما روى مالك فى الموطأ، عن عبد الرحمن بن أبى صعصعة، أنه بلغه أن عمرو بن الجموح، وعبد الله بن عمرو الأنصاريين كانا قد حفر السيل قبريهما، وهما ممن استشهد يوم أُحُد، فحفر عنهما ليُغيَّرا من مكانهما، فَوُجدا لم يتغيرا كأنهما ماتا بالأمس، وكان أحدهما قد جرح فوضع يده على جرحه، فدفن وهو كذلك، فأميطت يداه عن جرحه، ثم أرسلت فرجعت كما كانت، وكان بين أُحُد وبين يوم حُفر عنهما ست وأربعون سنة‏.‏

وروى ابن عيينة، عن أبى الزبير، عن جابر، قال‏:‏ لما أراد معاوية أن يُجرىَ العَيْنَ بأُحُد، نودى بالمدينة‏:‏ من كان له قتيل فليأت‏.‏

قال جابر‏:‏ فأتيناهم فأخرجناهم رطابًا يتثنون، فأصابت المسحاة أصبع رجل منهم فانفطرت دمًا‏.‏

وقال سفيان‏:‏ بلغنى أنه حمزة ابن عبد المطلب، وهذا الوقت غير الوقت الذى أخرج فيه جابر أباه من قبره‏.‏

باب الشَّقِّ وَاللَّحْدِ فِى الْقَبْرِ

وسمى اللّحْدِ، لأنه فِى ناحية ملتحدًا معتدلاً، ولو كان مستقيمًا لكان جرفًا‏.‏

- فيه‏:‏ جَابِر، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم يَجْمَعُ بَيْنَ رَجُلَيْنِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏أَيُّهُمْ أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ‏؟‏‏)‏ فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إِلَى أَحَدِهِمَا، قَدَّمَهُ فِى اللَّحْدِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلاءِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال عيسى بن دينار‏:‏ اللحد أحب إلى العلماء، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لُحِدَ له، ونصب على لحده اللبن، ولَحَد صلى الله عليه وسلم لابنه إبراهيم ونصب عليه اللبن، ولحد لأبى بكر وعمر، وأوصى عمر أهله‏:‏ إذا وضعتمونى فى لحدى فأفضوا بخدى إلى الأرض‏.‏

وأوصى ابن عمر أن يلحد له، واستحب ذلك النخعى، ومالك، وأبو حنيفة، وأصحابه، وإسحاق، وقالوا‏:‏ هذا الذى اختار الله لنبيه‏.‏

وقال عيسى بن دينار‏:‏ اللحد‏:‏ أن يحفر له تحت الجرف فى حائط قبلة القبر‏.‏

وفى سماع ابن غانم‏:‏ اللحد والشق كل واسع، واللحد أحب إلىّ‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ إن كانت أرضًا شديدة لُحد لهم، وإن كانت رقيقة شق لهم‏.‏

وقد روى عن الرسول من حديث جرير وغيره أنه قال‏:‏ ‏(‏اللحد لنا، والشق لغيرنا‏)‏، ولهذا الحديث، والله أعلم، كره الشق‏.‏

باب إِذَا أَسْلَمَ الصَّبِىُّ فَمَاتَ هَلْ يُصَلَّى عَلَيْهِ‏؟‏ وَهَلْ يُعْرَضُ عَلَى الصَّبِىِّ الإسْلامُ‏؟‏

وَقَالَ الْحَسَنُ وَشُرَيْحٌ وَإِبْرَاهِيمُ وَقَتَادَةُ‏:‏ إِذَا أَسْلَمَ أَحَدُهُمَا، فَالْوَلَدُ مَعَ الْمُسْلِمِ، وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ مَعَ أُمِّهِ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَلَمْ يَكُنْ مَعَ أَبِيهِ عَلَى دِينِ قَوْمِهِ، وَقَالَ‏:‏ الإسْلامُ يَعْلُو وَلا يُعْلَى‏.‏

- فيه‏:‏ ابْن عُمَر، قال‏:‏ انْطَلَقَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فِى رَهْطٍ قِبَلَ ابْنِ صَيَّادٍ، حَتَّى وَجَدُوهُ يَلْعَبُ مَعَ الصِّبْيَانِ، عِنْدَ أُكُمِ بَنِى مَغَالَةَ، وَقَدْ قَارَبَ ابْنُ صَيَّادٍ الْحُلُمَ، فَلَمْ يَشْعُرْ حَتَّى ضَرَبَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لابْنِ صَيَّادٍ‏:‏ ‏(‏تَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ‏)‏‏؟‏ فَنَظَرَ إِلَيْهِ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ‏:‏ أَشْهَدُ أَنَّكَ رَسُولُ الأمِّيِّينَ، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ أَتَشْهَدُ أَنِّى رَسُولُ اللَّهِ‏؟‏ فَرَفَضَهُ، وَقَالَ‏:‏ آمَنْتُ بِاللَّهِ وَبِرُسُلِهِ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏مَاذَا تَرَى‏؟‏‏)‏ قَالَ ابْنُ صَيَّادٍ‏:‏ يَأْتِينِى صَادِقٌ وَكَاذِبٌ، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏خُلِّطَ عَلَيْكَ الأمْرُ‏)‏، ثُمَّ قَالَ لَهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِنِّى قَدْ خَبَأْتُ لَكَ خَبِيئًا‏)‏، فَقَالَ ابْنُ صَيَّادٍ‏:‏ هُوَ الدُّخُّ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اخْسَأْ، فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ‏)‏، فَقَالَ عُمَرُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ دَعْنِى أَضْرِبْ عُنُقَهُ، فَقَالَ رسول الله‏:‏ ‏(‏إِنْ يَكُنْهُ فَلَنْ تُسَلَّطَ عَلَيْهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْهُ فَلا خَيْرَ لَكَ فِى قَتْلِهِ‏)‏‏.‏

وقال سَالِمٌ، عن ابْنَ عُمَر‏:‏ انْطَلَقَ بَعْدَ ذَلِكَ النّبِىَ عليه السلام وَأُبَىُّ بْنُ كَعْبٍ إِلَى النَّخْلِ الَّتِى فِيهَا ابْنُ صَيَّادٍ، وَهُوَ يَخْتِلُ أَنْ يَسْمَعَ مِنِ ابْنِ صَيَّادٍ شَيْئًا قَبْلَ أَنْ يَرَاهُ ابْنُ صَيَّادٍ، فَرَآهُ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ مُضْطَجِعٌ- ‏[‏يَعْنِى فِى قَطِيفَةٍ‏]‏ لَهُ- فِيهَا رَمْرَمةٌ، فَرَأَتْ أمُّ ابْنِ صَيّادٍ رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَتْ لابْنِ صَيَّادٍ‏:‏ يَا صَافِ- وَهُوَ اسْمُ ابْنِ صَيَّادٍ- هَذَا مُحَمَّدٌ، فَثَارَ ابْنُ صَيَّادٍ، فَقَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لَوْ تَرَكَتْهُ بَيَّنَ‏)‏، وَقَالَ شُعَيْبٌ‏:‏ رَمْرَمَةٌ فَرَصَهُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ كَانَ غُلامٌ يَهُودِىٌّ يَخْدُمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ الرسول يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ لَهُ‏:‏ ‏(‏أَسْلِمْ‏)‏، فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ‏:‏ أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ، فَخَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، وَهُوَ يَقُولُ‏:‏ ‏(‏الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِى أَنْقَذَهُ مِنَ النَّارِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عَبَّاس، كُنْتُ أَنَا وَأُمِّى مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، أَنَا مِنَ الْوِلْدَانِ، وَأُمِّى مِنَ النِّسَاءِ‏.‏

قَالَ ابْنُ شِهَابٍ‏:‏ يُصَلَّى عَلَى كُلِّ مَوْلُودٍ مُتَوَفًّى، وَإِنْ كَانَ لِغَيَّةٍ مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ وُلِدَ عَلَى فِطْرَةِ الإسْلامِ، يَدَّعِى أَبَوَاهُ الإسْلام، َ أَوْ أَبُوهُ خَاصَّةً، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ عَلَى غَيْرِ الإسْلامِ، إِذَا اسْتَهَلَّ صَارِخًا صُلِّىَ عَلَيْهِ، وَلا يُصَلَّى عَلَى مَنْ لا يَسْتَهِلُّ، مِنْ أَجْلِ أَنَّهُ سِقْطٌ، وَإِنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ كَانَ يُحَدِّثُ، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث‏.‏

قال المهلب‏:‏ يُصلى على الصبى الصغير المولود فى الإسلام، لأنه كان على دين أبويه، وأما الصغير العجمى، فإنه يعرض عليه الإسلام، لعرض رسول الله على ابن صياد بقوله‏:‏ ‏(‏أتشهد أنى رسول الله‏)‏‏؟‏ ولعرضه الإسلام على الصبى اليهودى الذى كان يخدمه‏.‏

وقال ابن القاسم‏:‏ إذا أسلم الصغير وقد عقل الإسلام، فله حكم المسلمين فى الصلاة عليه، ويباع على النصرانى إن ملكه، لأن مالكًا يقول‏:‏ لو أسلم وقد عقل الإسلام، ثم بلغ فرجع عنه أجبر عليه‏.‏

قال أشهب‏:‏ وإن لم يعقله ثم أجبر الذمى على بيعه، ولا يؤخذ الصبى بإسلامه إن بلغ‏.‏

وأجمع العلماء فى الطفل الحربى يُسبى ومعه أبواه أن إسلام الأب إسلام له، واختلفوا إذا أسلمت الأم، فذهب مالك إلى أنه على دين أبيه، وحجته إجماع العلماء أنه ما دام مع أبويه لم يلحقه، فحكمه حكم أبويه أبدًا حتى يبلغ، فكذلك إذا سبى لا يغير السباء حكمه حتى يبلغ، فيعبر عن نفسه، وكذلك إن مات لا يصلى عليه، وهو قول الشعبى‏.‏

وقال أبو حنيفة، والثورى، والأوزاعى، والشافعى، وأحمد‏:‏ إسلام الأم إسلام للابن، كقول الحسن وشريح، وهو قول ابن وهب صاحب مالك، ويصلى عليه إن مات عندهم‏.‏

وقال سحنون‏:‏ إنما يكون إسلام الأم إسلام له إذا لم يكن معه أبوه، وهو على دين أمه‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ وقول سحنون يعضده قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فأبواه يهودانه، أو ينصرانه‏)‏، فشرك بينهما فى ذلك، فإذا انفراد أحدهما دخل فى معنى الحديث، وهذا معنى رواية معن عن مالك ومن وافقه‏.‏

وإنما دعا النبى عليه السلام اليهودى الذى خدمه إلى الإسلام بحضرة أبيه، لأن الله تعالى أخذ عليه فرض التبليغ لعباده، ولا يخاف فى الله لومة لائم‏.‏

واختلفوا إذا لم يكن معه أبواه، ووقع فى المقاسم دونهما، ثم مات فى ملك مشتريه، فقال مالك فى المدونة‏:‏ لا يصلى عليه إلا أن يجيبه إلى الإسلام بأمر يعرف أنه عفله، وهو المشهور من مذهبه‏.‏

وروى معن‏:‏ إذا لم يكن معه أحد من آبائه ولم يبلغ أن يتدين أو يُدْعَى، ونوى سيده الإسلام صلى عليه، وأحكامه أحكام المسلمين فى الدفن فى مقابر المسلمين والموارثة، وهو قول ابن الماجشون، وابن دينار، وأصبغ، وإليه ذهب أبو حنيفة وأصحابه، والأوزاعى، والشافعى‏.‏

واتفق جمهور العلماء على أنه لا يصلى على السقط حتى يستهل، وهو قول مالك والكوفيين، والأوزاعى، والشافعى، وروى عن ابن عمر أنه يصلى عليه وإن لم يستهل، وهو قول أحمد وإسحاق، ذكره ابن المنذر، والصواب قول الجمهور، لأن من لم يستهل لم تصح له حياة، ولا يقال فيه أنه ولد على الفطرة، وإنما سن النبى صلى الله عليه وسلم الصلاة على من مات ممن تقدمت له حياة، لا من لم تصح له حياة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وفى حديث ابن صياد من الفقه جواز التجسس على من يخشى منه فساد الدين والدنيا، وهذا الحديث يبين أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تجسسوا‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏ ليس على العموم، وإنما المراد به عن التجسس على من لم يخش منه القدح فى الدين، ولم يضمر الغل للمسلمين، واستتر بقبائحه، فهذا الذى حاله التوبة والإنابة، وأما من خُشى منه مثل ما خُشى من ابن صياد، أو من كعب بن الأشرف وأشباههما ممن كان يضمر الفتك بأهل الإسلام، فجائز التجسس عليه، وإعمال الحيلة فى أمره إذا خُشى منه‏.‏

وقد ترجم لحديث ابن صياد فى كتاب الجهاد باب ‏(‏ما يجوز من الاحتيال والحذر على من تخشى معرته‏)‏‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن للإمام أو الرئيس أن يعمل نفسه فى أمور الدين ومصالح المسلمين، وإن كان له من يقوم فى ذلك مقامه‏.‏

وفيه‏:‏ أن للإمام أن يهتم بصغار الأمور، ويبحث عنها خشية ما يئول منها من الفساد‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏إن يكن هو فلن تسلط عليه‏)‏، يعنى إن يكن الدجال فلن تسلط عليه، لأنه لابد أن ينفذ فيه قدر الله‏.‏

وفيه‏:‏ أنه يجب التثبت فى أصل التهم، وأن لا تستباح الدماء إلا بيقين، لقوله‏:‏ ‏(‏فإن لم يكن هو فلا خير لك فى قتله‏)‏، وقيل‏:‏ إن للإمام أن يصبر ويعفو إذا جُنى عليه، أو قوبل بما لا ينبغى، لقول ابن صياد للنبى‏:‏ ‏(‏أشهد أنك رسول الأميين‏)‏، ولم يعاقبه‏.‏

وفيه‏:‏ أن للإمام والرئيس أن يكلم الكاهن، والمنجم على سبيل الاختبار لما عندهم، والعيب لما يَدَّعُونهُ، والإبطال لما ينتحلونه‏.‏

وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ الدخ، الدخان، وقوله صلى الله عليه وسلم لابن صياد‏:‏ ‏(‏اخسأ فلن تعدو قدرك‏)‏ أى لن تعدو الكهانة، وإنما أنت كاهن ودجال، وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ الزمزمة، أصوات العلوج عند الأكل، والزمزمة من الرعد ما لم يفصح‏.‏

باب إِذَا قَالَ الْمُشْرِكُ عِنْدَ الْمَوْتِ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ

- فيه‏:‏ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ‏:‏ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، فَوَجَدَ عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ، وَعَبْدَاللَّهِ بْنَ أَبِى أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لأبِى طَالِبٍ‏:‏ ‏(‏أى عَمِّ، قُلْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ‏)‏، قَالَ أَبُو جَهْلٍ، وَعَبْدُاللَّهِ بْنُ أُمَيَّةَ‏:‏ يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ‏؟‏ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ، آخِرَ مَا كَلَّمَهُم‏:‏ ْ هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَأَبَى أَنْ يَقُولَ‏:‏ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَمَا وَاللَّهِ لأسْتَغْفِرَنَّ لَكَ مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏.‏

قال المهلب‏:‏ إنما تنفع كلمة التوحيد لمن قالها قبل المعاينة للملائكة التى تقبض الأرواح، فحينئذ تنفعه شهادة التوحيد، وهو الذى يدل عليه كتاب الله، قال تعالى‏:‏ ‏{‏وليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 17‏]‏، يعنى حضور ملك الموت، وهى المعاينة لقبض روحه، ولا يراهم أحد إلا عند الانتقال من الدنيا إلى دار الآخرة فَعَلِمَ ما انتقل إليه حين أدركه الغرق، بقوله‏:‏ ‏(‏آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 90‏]‏ فقيل له‏:‏ ‏(‏الآن وقد عصيت قبل‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 91‏]‏ وجاء فى التفسير أنه لما عاين ملك الموت، ومن معه من الملائكة أيقن، قال‏:‏ آمنت أنه لا إله إلا الذى آمنت به بنو إسرائيل‏.‏

حثا جبريل فى فمه الحمأة ليمنعه استكمال التوحيد حنقًا عليه، ويدل على ذلك قوله‏:‏ ‏(‏يوم يأتى بعض آيات ربك لا ينفع نفسًا إيمانها لم تكن آمنت من قبل‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 158‏]‏، أى لما رأى الآية التى جعلها الله علامة لانقطاع التوبة وقبولها، لم ينفعه ما كان قبل ذلك كما لم ينفع الإيمان بعد رؤية ملك الموت‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وقد روى عن الرسول أنه قال لعمه عند الموت‏:‏ ‏(‏قل لا إله إلا الله، أحاج إليك بها عند الله‏)‏، فإن قال قائل‏:‏ فأى محاجة يحتاج إليها من وافى ربه بما يدخله به الجنة‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أنه يحتمل وجوهًا فى التأويل‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون ظن صلى الله عليه وسلم أن عمه اعتقد أن من آمن فى مثل حاله لا ينفعه إيمانه، إذ لم يقارنه عمل سواه من صلاة وصيام وزكاة وحج وشرائط الإسلام كلها، فأعلمه صلى الله عليه وسلم أن من قال‏:‏ لا إله إلا الله، عند موته أنه يدخل فى جملة المؤمنين، وإن تعرى من عمل سواها‏.‏

ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن يكون أبو طالب قد عاين أمر الآخرة، وأيقن بالموت، وصار فى حالة من لا ينتفع بالإيمان لو آمن، وهو الوقت الذى قال فيه‏:‏ أنا على ملة عبد المطلب عند خروج نفسه، فرجا له صلى الله عليه وسلم إن قال‏:‏ لا إله إلا الله، وأيقن بنبوته أن يشفع له بذلك، ويحاج له عند الله فى أن يتجاوز عنه، ويتقبل منه إيمانه فى تلك الحال، ويكون ذلك خاصًا لأبى طالب وحده لمكانه من الحماية والمدافعة عن النبى صلى الله عليه وسلم وقد روى مثل هذا المعنى عن ابن عباس‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ألا ترى أنه صلى الله عليه وسلم قد نفعه وإن كان مات على غير الإسلام، لأنه يكون أخف أهل النار عذابًا، فنفعه له لو شهد بشهادة التوحيد، وإن كان ذلك عند المعاينة، أحرى بأن يكون، ويحتمل وجهًا آخر، وهو أن أبا طالب كان ممن عاين براهين النبى صلى الله عليه وسلم وصدق معجزاته، ولم يشك فى صحة نبوته، وإن كان ممن حملته الأنفة وحمية الجاهلية على تكذيب النبى‏.‏

وكان سائر المشركين ينظرون إلى رؤسائهم ويتبعون ما يقولون، فاستحق أبو طالب ونظراؤه على ذلك من عظيم الوزر وكبير الإثم أن باءوا بإثمهم على تكذيب النبى صلى الله عليه وسلم فرجا له صلى الله عليه وسلم المحاجة بكلمة الإخلاص عند الله، حتى يسقط عنه إثم العناد والتكذيب لما قد تبين حقيقته وإثم من اقتدى به فى ذلك، وإن كان الإسلام يهدم ما قبله لكن آنسه بقوله‏:‏ ‏(‏أحاج لك بها عند الله‏)‏ لئلا يتردد فى الإيمان، ولا يتوقف عليه لتماديه على خلاف ما تبين حقيقته، وتورطه فى أنه كان مضلا لغيره‏.‏

وقيل‏:‏ إن قوله‏:‏ ‏(‏أحاج لك بها عند الله‏)‏ كقوله‏:‏ ‏(‏أشهد لك بها عند الله‏)‏ لأن الشهادة المرجحة له فى طلب حقه، ولذلك ذكر البخارى هذا الحديث فى هذا الباب بلفظ ‏(‏الشهادة‏)‏ لأنه أقرب للتأويل، وذكر قوله‏:‏ ‏(‏أحاج لك بها عند الله‏)‏ فى قصة أبى طالب فى كتاب مبعث النبى صلى الله عليه وسلم لاحتمالها التأويل، والله الموفق‏.‏

باب الْجَرِيدِة عَلَى الْقَبْرِ

وَأَوْصَى بُرَيْدَةُ الأسْلَمِيُّ أَنْ يُجْعَلَ على قَبْرِه جَرِيدَانِ‏.‏

وَرَأَى ابْنُ عُمَرَ فُسْطَاطًا عَلَى قَبْرِ عَبْدِالرَّحْمَنِ، فَقَالَ‏:‏ انْزِعْهُ يَا غُلامُ، فَإِنَّمَا يُظِلُّهُ عَمَلُهُ‏.‏

وقال خَارِجَةُ بْنُ زَيْدٍ‏:‏ رَأَيْتُنِى وَنَحْنُ شُبَّانٌ فِى زَمَنِ عُثْمَانَ، وَإِنَّ أَشَدَّنَا وَثْبَةً الَّذِى يَثِبُ قَبْرَ عُثْمَانَ بْنِ مَظْعُونٍ، حَتَّى يُجَاوِزَهُ‏.‏

وقال عُثْمَانُ بْنُ حَكِيمٍ‏:‏ أَخَذَ بِيَدِى خَارِجَةُ، فَأَجْلَسَنِى عَلَى قَبْرٍ، وَأَخْبَرَنِى عَنْ عَمِّهِ يَزِيدَ ابْنِ ثَابِتٍ، قَالَ‏:‏ إِنَّمَا كُرِهَ ذَلِكَ لِمَنْ أَحْدَثَ عَلَيْهِ‏.‏

وقال نَافِعٌ‏:‏ كَانَ ابْنُ عُمَرَ يَجْلِسُ عَلَى الْقُبُورِ‏.‏

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاس، مَرَّ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم بِقَبْرَيْنِ يُعَذَّبَانِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّهُمَا يُعَذَّبَانِ، وَمَا يُعَذَّبَانِ فِى كَبِيرٍ، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لا يَسْتَتِرُ مِنَ الْبَوْلِ، وَأَمَّا الآخَرُ فَكَانَ يَمْشِى بِالنَّمِيمَةِ‏)‏، ثُمَّ أَخَذَ جَرِيدَةً رَطْبَةً، فَشَقَّهَا نِصْفَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ فِى كُلِّ قَبْرٍ وَاحِدَةً، فَقَالُوا‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، لِمَ صَنَعْتَ هَذَا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏لَعَلَّهُ أَنْ يُخَفَّفَ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا‏)‏‏.‏

وترجم له باب‏:‏ ‏(‏عذاب القبر من الغيبة والبول‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما خص الجريدتين للغرز على القبر من دون سائر النبات والثمار، والله أعلم، لأنها أطول الثمار بقاءً، فتطول مدة التخفيف عنهما، وهى شجرة شبهها صلى الله عليه وسلم بالمؤمن، وقيل‏:‏ إنها خلقت من فضلة طينة آدم، وإنما أوصى بريدة أن يجعل على قبره الجريدتان تأسيًا بالنبى صلى الله عليه وسلم وتبركًا بفعله، ورجاء أن يخفف عنه، وقوله‏:‏ ‏(‏لعله أن يخفف عنهما‏)‏ ف ‏(‏لعل‏)‏ معناها عند العرب‏:‏ الترجى والطمع‏.‏

ومعنى الحديث‏:‏ الحض على ترك النميمة، والتحرز من البول، والإيمان بعذاب القبر، كما يرحم الله جماعة أهل السّنة، وإنما ترجم له باب ‏(‏عذاب القبر من الغيبة والبول‏)‏، وفى نص الحديث‏:‏ ‏(‏النميمة‏)‏ فإنه استدل البخارى منه على أن تلك النميمة كان فيها شىء من الغيبة، والنميمة والغيبة محرمتان، وهما فى النهى عنهما سواء‏.‏

وأما الجلوس على القبور فقد رويت أحاديث فى النهى عن القعود عليها، روى عبد الرزاق، عن ابن جريج، قال‏:‏ أخبرنى أبو الزبير، أنه سمع جابر بن عبد الله، قال‏:‏ سمعت النبى، صلى الله عليه وسلم ‏(‏ينهى أن يقعد على القبور، أو يبنى أو يجصص عليها‏)‏‏.‏

وعن أبى بكرة، وابن مسعود‏:‏ ‏(‏لأن أطأ على جمرة نار حتى تطفأ أحب إلىّ من أن أطأ على قبر‏)‏‏.‏

وأخذ النخعى، ومكحول، والحسن، وابن سيرين بهذه الأحاديث، وجعلوها على العموم، وكرهوا المشى على القبور والقعود عليها، وأجاز مالك، والكوفيون الجلوس على القبور، وقالوا‏:‏ إنما نهى عن القعود عليها للمذاهب، فيما نرى والله أعلم، يريد حاجة الإنسان‏.‏

واحتج بعضهم بأن على بن أبى طالب كان يتوسد القبور، ويضطجع عليها، وروى أبو أمامة بن سهل بن حنيف، أن زيد ابن ثابت، قال‏:‏ ‏(‏هلم يا ابن أختى أخبرك، إنما نهى رسول الله عن الجلوس على القبر لحدث بول أو غائط‏)‏، فبين زيد فى هذا الحديث الجلوس المنهى عنه فى الآثار الأول ما هو، وروى مثله عن أبى هريرة، ذكره ابن وهب فى موطئه‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ فعلمنا أن المقصود بالنهى هو الجلوس للبول والغائط لا ما سواهما، وقد تقدم فى كتاب الطهارة من معنى هذا الحديث ما تعلق بالباب، وسيأتى منه أيضًا فى كتاب الأدب، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب مَوْعِظَةِ الْمُحَدِّثِ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقُعُودِ أَصْحَابِهِ حَوْلَهُ

- فيه‏:‏ عَلِىٍّ كُنَّا فِي جَنَازَةٍ فِي بَقِيعِ الْغَرْقَدِ، فَأَتَانَا النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم، فَقَعَدَ، وَقَعَدْنَا حَوْلَهُ، وَمَعَهُ مِخْصَرَةٌ، فَنَكَّسَ، وَجَعَلَ يَنْكُتُ بِمِخْصَرَتِهِ، ثُمَّ قَالَ‏:‏ ‏(‏مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ مَا مِنْ نَفْسٍ مَنْفُوسَةٍ إِلا كُتِبَ مَكَانُهَا مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَإِلا قَدْ كُتِبَتْ شَقِيَّةً أَوْ سَعِيدَةً‏)‏، فَقَالَ رَجُلٌ لرَسُولَ اللَّهِ‏:‏ أَفَلا نَتَّكِلُ عَلَى كِتَابِنَا، وَنَدَعُ الْعَمَلَ، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ السَّعَادَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا مَنْ كَانَ مِنَّا مِنْ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ فَسَيَصِيرُ إِلَى عَمَلِ أَهْلِ الشَّقَاوَةِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏أَمَّا أَهْلُ السَّعَادَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ السَّعَادَةِ، وَأَمَّا أَهْلُ الشَّقَاوَةِ فَيُيَسَّرُونَ لِعَمَلِ الشَّقَاوَةِ، ثُمَّ قَرَأَ‏:‏ ‏(‏فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى‏}‏ الآية‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فيه جواز القعود عند القبور والتحدث عندها بالعلم والمواعظ‏.‏

قال المهلب‏:‏ ونَكْتُهُ صلى الله عليه وسلم بالمخصرة فى الأرض هو أصل ما أفتى به أهل العلم من تحريك الإصبع فى الصلاة للتشهد، ومعنى النكت بالمخصرة هو إشارة إلى المعانى، وتفصيل الكلام وإحضار القلب للفصول، والمعنى، والمخصرة‏:‏ عصا، وهذا الحديث أصل لأهل السُّنَّة فى أن السعادة والشقاء خلق لله، بخلاف قول القدرية الذين يقولون‏:‏ إن الشر ليس بخلق لله، وفيه رد على أهل الجبر، لأن المجبر لا يأتى الشئ إلا وهو يكرهه، والتيسير ضد الجبر، ألا ترى قول الرسول‏:‏ ‏(‏إن الله تجاوز لى عن أمتى ما استكرهوا عليه‏)‏ والتيسير هو أن يأتى الإنسان الشىء وهو يحبه، وسيأتى بقية الكلام فى هذا الحديث فى كتاب القدر، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب مَا جَاءَ فِى قَاتِلِ النَّفْسِ

- فيه‏:‏ ثَابِتِ بْنِ الضَّحَّاكِ، قال‏:‏ قَالَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ حَلَفَ بِمِلَّةٍ غَيْرِ الإسْلامِ كَاذِبًا مُتَعَمِّدًا، فَهُوَ كَمَا قَالَ، وَمَنْ قَتَلَ نَفْسَهُ بِحَدِيدَةٍ عُذِّبَ بِهِا فِى نَارِ جَهَنَّمَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ جُنْدَب، عن الرسول، قَالَ‏:‏ ‏(‏كَانَ بِرَجُلٍ جِرَاحٌ فَقَتَلَ نَفْسَهُ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى‏:‏ بَدَرَنِى عَبْدِى بِنَفْسِهِ، حَرَّمْتُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏الَّذِى يَخْنُقُ نَفْسَهُ، يَخْنُقُهَا فِى النَّارِ، وَالَّذِى يَطْعُنُهَا، يَطْعُنُهَا فِى النَّارِ‏)‏‏.‏

أجمع الفقهاء وأهل السُّنَّة أن من قتل نفسه أنه لا يخرج بذلك عن الإسلام، وأنه يصلى عليه، وإثمه عليه كما قال مالك، ويدفن فى مقابر المسلمين، ولم يكره الصلاة عليه إلا عمر بن عبد العزيز، والأوزاعى فى خاصة أنفسهما، والصواب قول الجماعة، لأن الرسول سن الصلاة على المسلمين، ولم يستثن منهم أحدًا، فيصلى على جميعهم الأخيار والأشرار إلا الشهداء الذين أكرمهم الله بالشهادة‏.‏

قال المهلب‏:‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏بدرنى عبدى بنفسه، حرمت عليه الجنة‏)‏ وسائر الأحاديث، فحملها عند العلماء فى وقت دون وقت إن أراد الله أن ينفذ عليه الوعيد، لأن الله فى وعيده للمذنبين بالخيار عند أهل السُّنَّة، إن شاء عفا عنه، وإن شاء عذبه، فإن عذبه فإنما يعذبه مدة ما ثم يخرجه بإيمانه إلى الجنة، ويرفع عنه الخلود والتأبيد على ما جاء فى نص القرآن وحديث الرسول، فالقرآن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 48، 116‏]‏، وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏من قال‏:‏ لا إله إلا الله، حرمه الله على النار‏)‏، يعنى حرم خلوده على النار‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا فهو كما قال‏)‏ كاذب لا كافر، ولا يخرج بهذا القول من الإسلام إلى الدين الذى حلف به، لأنه لم يقل ما يعتقده، ولذلك استحق اسم الكذب، فوجب أن يكون كما قال كاذبًا لا كافرًا‏.‏

قال غيره‏:‏ ومعنى الحديث النهى عن الحلف بما حلف به من ذلك والزجر عنه، وتقدير الكلام‏:‏ من حلف بملة غير الإسلام كاذبًا متعمدًا، فهو كما قال، يعنى فهو كاذب حقًا، لأنه حين حلف بذلك ظن أن إثم الكذب واسمه ساقطان عنه لاعتقاده أنه لا حرمة لما حلف به، لكن لما تعمد ترك الصدق فى يمينه، وعدل عن الحق فى ذلك، لزمه اسم الكذب، وإثم الحلف، فهو كاذب كذبتين‏:‏ كاذب بإظهار تعظيم ما يعتقد خلافه، وكذب بنفيه ما يعلم إثباته أو بإثبات ما يعلم نفيه‏.‏

فإن ظن ظان أن فى هذا الحديث دليل على إباحة الحلف بملة غير الإسلام صادقًا لاشتراطه فى الحديث أن يحلف به كاذبًا، قيل له‏:‏ ليس كما توهمت، لورود نهى النبى صلى الله عليه وسلم عن الحلف بغير الله نهيًا مطلقًا، فاستوى فى ذلك الكاذب والصادق، وفى النهى عنه، وسيتكرر هذا الحديث فى كتاب الأيمان والنذور، وفى كتاب الأدب، ويأتى هناك من الكلام ما يقتضيه التبويب، إن شاء الله تعالى‏.‏

باب مَا يُكْرَهُ مِنَ الصَّلاةِ عَلَى الْمُنَافِقِينَ وَالاسْتِغْفَارِ لِلْمُشْرِكِينَ

- فيه‏:‏ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، أَنَّهُ قَالَ‏:‏ لَمَّا مَاتَ عَبْدُاللَّهِ بْنُ أُبَىٍّ بْنُ سَلُولَ دُعِىَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم لِيُصَلِّىَ عَلَيْهِ، فَلَمَّا قَامَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَثَبْتُ إِلَيْهِ، فَقُلْتُ‏:‏ يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَتُصَلِّى عَلَى ابْنِ أُبَىٍّ، وَقَدْ قَالَ يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، كَذَا وَكَذَا أُعَدِّدُ عَلَيْهِ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، وَقَالَ‏:‏ ‏(‏أَخِّرْ عَنِّى يَا عُمَرُ‏)‏، فَلَمَّا أَكْثَرْتُ عَلَيْهِ، قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنِّى خُيِّرْتُ فَاخْتَرْتُ، لَوْ أَعْلَمُ أَنِّى إِنْ زِدْتُ عَلَى السَّبْعِينَ يُغْفَرُ لَهُ لَزِدْتُ عَلَيْهَا‏)‏، قَالَ‏:‏ فَصَلَّى عَلَيْهِ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، ثُمَّ انْصَرَفَ، فَلَمْ يَمْكُثْ إِلا يَسِيرًا، حَتَّى نَزَلَتِ الآيَتَانِ مِنْ بَرَاءَةٌ‏:‏ ‏(‏وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏وَهُمْ فَاسِقُونَ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 84‏]‏، قَالَ‏:‏ فَتَعَجِبْتُ بَعْدُ مِنْ جُرْأَتِى عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَوْمَئِذٍ، وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فرض على جميع المؤمنين، متعين على كل واحد منهم ألا يدعو للمشركين، ولا يُستغفر لهم إذا ماتوا على شركهم لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما كان للنبى والذين آمنوا أن يستغفروا للمشركين ‏(‏إلى‏)‏ الجحيم‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 113‏]‏، فإن قيل‏:‏ إن إبراهيم استغفر لأبيه وهو كافر، فالجواب‏:‏ أن الله قد بيَّن عذره فى ذلك، فقال‏:‏ ‏(‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏، فدعا له وهو يرجو إجابته ورجوعه إلى الإيمان‏)‏ فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏‏.‏

ففى هذا من الفقه‏:‏ أنه جائز أن يُدعى لكل من يرجى من الكفار إنابته بالهداية ما دام حيا، لأن النبى صلى الله عليه وسلم لما شَمَّتَهُ أحد المنافقين واليهود قال‏:‏ ‏(‏يهديكم الله ويصلح بالكم‏)‏، وقد يعمل الرجل بعمل أهل النار، ويختم له بعمل أهل الجنة‏.‏

وفيه‏:‏ تصحيح القول بدليل الخطاب، لاستعمال الرسول له، ذلك أن إخبار الله أنه لا يغفر له ولو استغفر له سبعين مرة، يحتمل أنه لو زاد على السبعين أنه يغفر له لكن لما شهد الله أنه كافر بقوله‏:‏ ‏(‏ذلك بأنهم كفروا بالله ورسوله‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 80‏]‏ دلت هذه الآية على تغليب أحد الاحتمالين، وهو أنه لا يغفر له لكفره، فلذلك أمسك صلى الله عليه وسلم عن الدعاء له‏.‏

قال الطبرى‏:‏ وفيه الإبانة عن نهى الله ورسوله عن الصلاة على المنافقين، لاعتقادهم وإن كانوا يظهرون الإسلام اعتصامًا به وحقنًا لدمائهم، فأما القيام على قبورهم فغير محرم على غير رسول الله، بل جائز لوليِّه القيام عليه لإصلاحه ودفنه، وبذلك صح الخبر عن الرسول، وعمل به أهل العلم بعده، فدل ذلك أن القيام على قبره كان مخصوصًا بتحريمه رسول الله‏.‏

والدليل على صحة ذلك ما حدثنا إسماعيل بن موسى، حدثنا شريك بن عبد الله، عن أبى إسحاق، عن ناجية بن كعب، عن علىّ، قال‏:‏ لما مات أبو طالب أتيت النبى، فقلت له‏:‏ إن عمك الضال قد هلك، قال‏:‏ اذهب فواره، ولا تحدثن شيئًا، فأتيته، فأمرنى أن اغتسل، ودعا لى بدعوات ما يسرنى أن لى بها حمر النعم‏.‏

وروى الثورى، عن الشيبانى، عن سعيد ابن جبير، قال‏:‏ مات رجل يهودى وله ابن مسلم، فذكر ذلك لابن عباس، قال‏:‏ كان ينبغى له أن يمشى معه ويدفنه، ويدعو له بالصلاح ما دام حيًا، فإذا مات وكله إلى شأنه، ثم قرأ‏:‏ ‏(‏وما كان استغفار إبراهيم لأبيه‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 114‏]‏ الآية‏.‏

قال النخعى‏:‏ توفيت أم الحارث بن عبد الله بن أبى ربيعة، وهى نصرانية، فاتبعها أصحاب رسول الله تكرمة للحارث ولم يصلوا عليها‏.‏

قال المؤلف‏:‏ وفى إقدام عمر على مراجعة الرسول فى الصلاة عليه من الفقه‏:‏ أن الوزير الفاضل الناصح لا حرج عليه أن يخبر سلطانه بما عنده من الرأى، وإن كان مخالفًا لرأيه، وكان عليه فيه بعض الجفاء إذا علم فضل الوزير وثقته وحسن مذهبه، فإنه لا يلزمه اللوم على ما يؤديه اجتهاده إليه، ولا يتوجه إليه سوء الظن، وأن صَبْرَ السلطان على ذلك من تمام الفضل، ألا ترى سكوت النبى عن عمر، وتركه الإنكار عليه، وفى رسول الله أكبر الأسوة‏.‏

باب ثَنَاءِ النَّاسِ عَلَى الْمَيِّتِ

- فيه‏:‏ أَنَس، مَرُّوا بِجَنَازَةٍ، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا خَيْرًا، فَقَالَ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏وَجَبَتْ‏)‏، ثُمَّ مَرُّوا بِأُخْرَى، فَأَثْنَوْا عَلَيْهَا شَرًّا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَجَبَتْ‏)‏، فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ‏:‏ مَا وَجَبَتْ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏هَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ خَيْرًا فَوَجَبَتْ لَهُ الْجَنَّة، ُ وَهَذَا أَثْنَيْتُمْ عَلَيْهِ شَرًّا فَوَجَبَتْ لَهُ النَّارُ، أَنْتُمْ شُهَدَاءُ اللَّهِ فِى الأرْضِ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّاب، قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏أَيُّمَا مُسْلِمٍ شَهِدَ لَهُ أَرْبَعَةٌ بِخَيْرٍ أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ‏)‏، فَقُلْنَا‏:‏ وَثَلاثَةٌ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَثَلاثَةٌ‏)‏، فَقُلْنَا‏:‏ وَاثْنَانِ‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏وَاثْنَانِ‏)‏، ثُمَّ لَمْ نَسْأَلْهُ عَنِ الْوَاحِدِ‏.‏

قال أبو جعفر الداودى‏:‏ معنى هذا الحديث عند الفقهاء إذا أثنى عليه أهل الفضل والصدق، لأن الفسقة قد يثنون على الفاسق، فلا يدخلون فى معنى هذا الحديث، والمراد، والله أعلم، إذا كان الثناء بالشرِّ ممن ليس له بعدو، لأنه قد يكون للرجل الصالح العدو، فإذا مات عدوه ذَكَر عند ذلك الرجل الصالح شرًا، فلا يدخل الميت فى معنى هذا، لأن شهادته كانت لا تجوز عليه فى الدنيا، وإن كان عدلاً، للعداوة، والبشرُ غير معصومين‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ إن قال قائل‏:‏ حديث أنس يعارضه قوله صلى الله عليه وسلم فى باب ما ينهى عنه من سب الأموات‏:‏ ‏(‏لا تسبوا الأموات، فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا‏)‏‏.‏

قيل له‏:‏ حديث أنس هذا يجرى مجرى الغيبة فى الأحياء، فإن كان الرجل أغلب أحواله الخير، وقد تكون منه الفلتة، فالاغتياب له محرم، وإن كان فاسقًا معلنًا فلا غيبة فيه‏.‏

فكذلك الميت إذا كان أغلب أحواله الخير لم يجز ذكر ما فيه من شر ولا سبه به، وإن كان أغلب أحواله الشر فيباح ذكره منه، وليس ذلك مما نهى عنه من سب الأموات، ويؤيد ذلك ما أجمع عليه أهل العلم من ذكر الكذابين وتجريح المجرَّحين‏.‏

وفيه وجه آخر‏:‏ وهو أن حديث‏:‏ ‏(‏لا تسبوا الأموات‏)‏ عام، وسببه ما روى عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏(‏أمسكوا عن ذى قبر‏)‏، فيحتمل أن يكون صلى الله عليه وسلم أباح ذكر الميت بما فيه من غالب الشر عند موته خاصة، ليتعظ بذلك فساق الأحياء، فإذا صار الميت فى قبره وجب الإمساك عنه لإفضائه إلى ما قدم كما قال صلى الله عليه وسلم، فسقط التعارض‏.‏

فإن قيل‏:‏ فلا حجة فى جواز تجريح المحدثين، لأن الضرورة دعت إلى ذلك حياطة لحديث النبى صلى الله عليه وسلم فجاز تخصيصهم للضرورة‏.‏

قيل له‏:‏ هو مثل الذى غلب عليه الفسق، فوجب ذكر فسقه تحذيرًا من حاله، وهو من هذا الباب، ومثله، مما لا اعتراض لك فيه، ذكره صلى الله عليه وسلم للذى يعمل حسنة وهو مؤمن، فبذلك غفر له، فذكره بقبيح عمله إذا كان الغالب على عمله الشرّ انتفع بخشية الله تعالى‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فإن قال قائل‏:‏ فإن حديث أنس مخالف لحديث عمر، لأنه لم يشترط فى الذين أثنوا على الجنازة خيرًا وشرًا عددًا من الناس لا يجزئ أقل منهم، وأحال فى ذلك صلى الله عليه وسلم ما يغلب على الرجل بعد موته عند جملة من الناس من ثناء الخير والشر، أنه المحكوم به له فى الآخرة، وقد جاء بيان هذا فى حديث آخر‏:‏ ‏(‏إن الله إذا أحب عبدًا أمر الملائكة أن تنادى فى السماء‏:‏ ألا إن الله يحب فلانًا فأحبوه، فيحبه أهل السماء، ثم يجعل له القبول فى الأرض، وإذا أبغض عبدًا‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ كذلك فهو معنى قوله‏:‏ ‏(‏أنتم شهداء الله فى الأرض‏)‏ لأن المحبة والبغضة من عنده تعالى، ويشهد لصحة هذا قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وألقيت عليك محبة منى‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 39‏]‏‏.‏

فإن قيل‏:‏ فهذا المعنى مخالف لحديث عمر، لأنه شرط فيه أربعة شهداء، أو ثلاثة، أو اثنين، وفى الحديث الأول شرط جملة كثيرة من المؤمنين، وإن لم يحصرهم عدد‏.‏

قيل‏:‏ ليس كما توهمت، وإنما اختلف العددان لاختلاف المعنيين، وذلك أن الثناء قد يكون بالسماع المتصل على الألسنة، فاستحب فى ذلك التواتر والكثرة، والشهادة لا تكون إلا بالمعرفة والعلم بأحوال المشهود له، فناب فى ذلك أربعة شهداء، وذلك على ما يكون من الشهادة، لأن الله جعل فى الزنا أربعة شهداء، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه ثلاثة، فإن قصروا عن ذلك ناب فيه اثنان، وذلك أقل ما يجزئ من الشهادة على سائر الحقوق، رحمة من الله لعباده المؤمنين، وتجاوزًا عنهم حين أجرى أموره فى الآخرة على ما أجراه فى الدنيا، وقَبِلَ شهادة رجلين من عباده المؤمنين بعضهم على بعض فى أحكام الآخرة‏.‏

روى ابن وضاح، قال‏:‏ حدثنا محمد بن مصفى، حدثنا بقية، قال‏:‏ حدثنا الضحاك بن حُمرة، عن صالح الأملوكى، عن حميد، عن أنس، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما من ميت يموت فيشهد له رجلان من جيرته الأدنيين، فيقولان‏:‏ اللهم لا نعلم إلا خيرًا، إلا قال الله لملائكته‏:‏ أشهدكم أننى قد قبلت شهادتهم، وغفرت له ما لا يعلمون‏)‏‏.‏

باب مَا جَاءَ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ

وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِى غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ‏(‏إلى‏)‏ الْهُونِ‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 93‏]‏‏.‏

قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ‏:‏ الْهُونُ هُوَ الْهَوَانُ، وَالْهَوْنُ الرِّفْقُ، وَقَوْلُهُ تعالى‏:‏ ‏{‏سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏، وَقَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ ‏(‏إلى‏)‏ أَشَدَّ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 45‏]‏‏.‏

- فيه‏:‏ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، عَنِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِذَا أُقْعِدَ الْمُؤْمِنُ فِى قَبْرِهِ أُتِىَ ثُمَّ شَهِدَ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ‏:‏ ‏(‏يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ ‏(‏‏}‏ ‏[‏إبراهيم‏:‏ 27‏]‏‏.‏

وقال شُعْبَة‏:‏ نَزَلَتْ فِى عَذَابِ الْقَبْرِ‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَ عُمَر، اطَّلَعَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم عَلَى أَهْلِ الْقَلِيبِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا‏؟‏‏)‏ فَقِيلَ لَهُ‏:‏ أتَدْعُو أَمْوَاتًا قَدْ جُيَّفُوا‏؟‏ فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَا أَنْتُمْ بِأَسْمَعَ مِنْهُمْ، وَلَكِنْ لا يُجِيبُونَ‏)‏‏.‏

وقالتْ عَائِشَة‏:‏ إِنَّمَا قَالَ الرسول‏:‏ ‏(‏إِنَّهُمْ لَيَعْلَمُونَ الآنَ أَنَّ مَا كُنْتُ أَقُولُ لَهُمْ حَقٌّ‏)‏، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتَى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏‏.‏

وَقد قَالَتْ عَائِشَة‏:‏ أَنَّ يَهُودِيَّةً دَخَلَتْ عَلَيْهَا، فَذَكَرَتْ عَذَابَ الْقَبْرِ، فَسَأَلَتْ عَائِشَةُ النّبِىّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ، عَذَابُ الْقَبْرِ حَقٌّ‏)‏، فَمَا صَلَّى رسول الله صلى الله عليه وسلم صَلاةً إِلا تَعَوَّذَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَسْمَاءَ، قَامَ النّبِىّ خَطِيبًا، فَذَكَرَ فِتْنَةَ الْقَبْرِ الذِّى يَفْتَتِنُ به الْمَرْءُ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ الرَسُول‏:‏ ‏(‏إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا وُضِعَ فِى قَبْرِهِ وَتَوَلَّى عَنْهُ أَصْحَابُهُ، وَإِنَّهُ لَيَسْمَعُ قَرْعَ نِعَالِهِمْ، أَتَاهُ مَلَكَان، ِ فَيُقْعِدَانِهِ فَيَقُولانِ له‏:‏ مَا كُنْتَ تَقُولُ فِى هَذَا الرَّجُلِ‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏‏؟‏ الحديث ‏(‏فَيُضْرَبُ بِمَطَرِقَة مِنْ حَدِيدٍ ضَرْبَةً، فَيَصِيحُ صَيْحَةً يَسْمَعُهَا مَنْ يَلِيهِ إلا الثَّقَلَيْنِ‏)‏‏.‏

قال أبو بكر بن مجاهد‏:‏ أجمع أهل السُّنَّة أن عذاب القبر حق، وأن الناس يُفتنون فى قبورهم بعد أن يُحيوا فيها ويُسألوا فيها، ويثبت الله من أحب تثبيته منهم‏.‏

وقال أبو عثمان بن الحداد‏:‏ وإنما أنكر عذاب القبر بشر المريسى والأصم وضرار، واحتجوا بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏ واحتجوا بمعارضة عائشة لابن عمر‏.‏

قال القاضى أبو بكر بن الطيب وغيره‏:‏ قد ورد القرآن بتصديق الأخبار الواردة فى عذاب القبر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏النار يعرضون عليها غدوا وعشيا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏ وقد اتفق المسلمون أنه لا غدوة ولا عشى فى الآخرة، وإنما هما فى الدنيا، فهم يعرضون مماتهم على النار قبل يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، قال تعالى‏:‏ ‏{‏ويوم تقوم الساعة أدخلوا آل فرعون أشد العذاب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏، فإذا جاز أن يكون المكلَّف بعد موته معروضًا على النار غدوا وعشيًا، جاز أن يسمع الكلام ويمنع الجواب، لأن اللذة والعذاب تجىء بالإحساس، فإذا كان كذلك وجب اعتقاد رد الحياة فى تلك الأجساد، وسماعهم للكلام، والعقل لا يدفع هذا، ولا يوجب حاجة إلى بلة ورطوبة، وإنما يقتضى حاجتها إلى المحل فقط، فإذا صح رد الحياة إلى أجسامهم مع ما هم عليه من نقص البنية، وتقطع الأوصال، صح أن يوجد فيهم سماع الكلام، والعجز عن رد الجواب‏.‏

وقد ذكر البخارى فى غزوة بدر بعد قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏)‏، قال قتادة‏:‏ أحياهم الله حتى أسمعهم، توبيخًا ونقمة وحسرة وندمًا‏.‏

وعلى تأويل قتادة فقهاء الأئمة وجماعة أهل السُّنَّة، وعلى ذلك تأوله عبد الله بن عمر، راوى الحديث عن النبى، صلى الله عليه وسلم‏.‏

قال القاضى‏:‏ وليس فى قول عائشة ما يعارض قول ابن عمر، لأنه يمكن صلى الله عليه وسلم أن يكون قد قال فى قتلى بدر القولين جميعًا، ولم تحفظ عائشة إلا أحدهما، لأن القولين غير متنافيين، أن ما دعوا الله لا ينفى رد الحياة إلى أجسامهم، وسماعهم للنداء بعد موتهم إذا عادوا أحياء‏.‏

وقال الطبرى فى معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع منهم ولكن لا يجيبون‏)‏، اختلف السلف من العلماء فى تأويل هذا الحديث، فقالت جماعة يكثر تعدادهم بالعموم، وقالت‏:‏ إن الميت يسمع كلام الأحياء، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم لأهل القليب ما قال، وقال‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع منهم‏)‏، واحتجوا بأحاديث فى معنى قوله فى الميت‏:‏ ‏(‏إنه ليسمع قرع نعالهم‏)‏‏.‏

ذكْرُ من قال يسمعون كلام الأحياء ويتكلمون، حدثنا محمد بن بشار، حدثنا عبد الرحمن بن عوف، حدثنا عوف، عن جلاس، عن أبى هريرة، قال‏:‏ ‏(‏إن أعمالكم تعرض على أقربائكم من موتاكم، فإن رأوا خيرًا فرحوا به، وإن رأوا شرًا كرهوه، وإنهم يستخبرون الميت إذا أتاهم من مات بعدهم، حتى إن الرجل ليسأل عن امرأته أتزوجت أم لا‏؟‏ وحتى إن الرجل ليسأل عن الرجل، فإذا قيل له‏:‏ قد مات، قالوا‏:‏ هيهات ذهب، فإن لم يحسوه عندهم، قالوا‏:‏ إنا لله وإنا إليه راجعون، ذهب به إلى أمه الهاوية‏)‏‏.‏

وروى ابن وهب، عن العطاف بن خالد، عن خالته، وكانت من العوابد، أنها كانت تأتى قبور الشهداء، قالت‏:‏ صليت يومًا عند قبر حمزة بن عبد المطلب، فلما قمت، قلت‏:‏ السلام عليكم فسمعت أذناى رد السلام يخرج من تحت الأرض، أعرفه كما أعرف أن الله خلقنى، وما فى الوادى داعٍ ولا مجيب، فاقشعرت كُلُّ شعرة منى‏.‏

وعن عامر بن سعد‏:‏ أنه كان إذا خرج إلى قبور الشهداء يقول لأصحابه‏:‏ ألا تسلمون على الشهداء فيردون عليكم‏.‏

وقال آخرون‏:‏ معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏)‏ ما أنتم بأعلم أنه حق منهم، ورووا ذلك عن النبى صلى الله عليه وسلم وذكروا قول عائشة حين أنكرت على ابن عمر، وقالت‏:‏ إنما قال عليه السلام‏:‏ إنهم ليعلمون الآن ما كنت أقول لهم الحق‏.‏

قالوا‏:‏ فخبر عائشة بين ما قلنا من تأويل قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ما أنتم بأسمع لما أقول منهم‏.‏

أنه يراد به ما أنتم بأعلم لا أنه خبر عن أنهم يسمعون أصوات بنى آدم وكلامهم، قالوا‏:‏ ولو كانوا يسمعون كلام الناس وهم موتى، لم يكن لقوله‏:‏ ‏(‏إنك لا تسمع الموتى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏‏)‏ وما أنت بمسمع من فى القبور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏ معنى‏.‏

قال الطبرى‏:‏ والصواب من القول فى ذلك أن كلا الروايتين عن النبى فى ذلك صحيح لعدالة نقلتها، والواجب الإيمان بها، والإقرار بأن الله يُسمع من يشاء من خلقه بعد موتهم، ما شاء من كلام خلقه، ويُفهم ما يشاء منهم ما يشاء، ويُنعِّم من أحب منهم، ويعذب فى قبره الكافر، ومن استحق العذاب كيف أراد، على ما صحت به الأخبار عن النبى، صلى الله عليه وسلم‏.‏

وليس فى قوله‏:‏ ‏(‏إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏، حجة فى دفع ما صحت به الآثار من قوله لأصحابه فى أهل القليب‏:‏ ‏(‏ما أنتم بأسمع منهم‏)‏، ولا فى إنكار من أنكر ما ثبت من قوله‏:‏ ‏(‏إنه ليسمع قرع نعالهم‏)‏ إذا كان قوله‏:‏ ‏(‏وما أنت بمسمع من فى القبور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏، و‏)‏ إنك لا تسمع الموتى‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 80‏]‏ محتملاً من التأويل وجهًا سوى ما تأوله من زعم أن الميت لا يسمع كلام الأحياء، وذلك أن يكون معناه‏:‏ فإنك لا تسمع الموتى بطاقتك وقدرتك، إذ كان خالق السمع غيرك، ولكن الله هو الذى يُسمعهم‏.‏

وذلك نظير قوله‏:‏ ‏(‏وما أنت بهاد العمى عن ضلاتهم‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 81‏]‏ وذلك بالتوفيق والهداية بيد الله دون من سواه، فنفى عن نبيه أن يكون قادرًا أن يسمع الموتى إلا بمشيئة، كما نفى أن يكون قادرًا على هداية الضلال إلا بمشيئته، وإنما أنت نذير، فبلغ ما أُرسلت به‏.‏

والثانى‏:‏ أن يكون المعنى‏:‏ فإنك لا تسمع الموتى إسماعًا ينتفعون به، لأنهم قد انقطعت عنهم الأعمال، وخرجوا من دار العمل إلى دار الجزاء، فلا ينفعهم دعاؤك إياهم إلى الإيمان بالله وبطاعته، فكذلك هؤلاء الذين كتب عليهم ربك أنهم لا يؤمنون، لا يسمعهم دعاؤك إياهم إسماعًا ينتفعون به، لأن الله قد حتم عليهم ألا يؤمنوا، كما حتم على أهل القبور من أهل الكفر أنهم لا ينفعهم بعد كونهم فى القبور عمل، لأن الآخرة ليست بدار امتحان، وإنما هى دار جزاء‏.‏

وكذلك قوله‏:‏ ‏(‏إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏ الجهال، يريد أنك لا تقدر على إفهام من جعله الله جاهلاً، ولا تقدر على إسماع من جعله الله أصم عن الهدى، وفى صدر الآية ما يدل على هذا، لأنه قال‏:‏ ‏(‏وما يستوى الأعمى والبصير‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 19‏]‏ يعنى بالأعمى‏:‏ الكافر، والبصير‏:‏ المؤمن‏)‏ ولا الظلمات ولا النور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 20‏]‏ يعنى بالظلمات‏:‏ الكفر، والنور‏:‏ الإيمان،‏)‏ ولا الظل ولا الحرور‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 21‏]‏ يعنى بالظل‏:‏ الجنة، وبالحرور‏:‏ النار،‏)‏ وما يستوى الأحياء ولا الأموات‏}‏ ‏[‏فاطر‏:‏ 22‏]‏ يعنى بالأحياء‏:‏ العقلاء، وبالأموات‏:‏ الجهال، ثم قال‏:‏ ‏(‏إن الله يسمع من يشاء وما أنت بمسمع من فى القبور ‏(‏يعنى‏:‏ إنك لا تسمع الجهال الذين كأنهم موتى فى القبور، ولم يرد بالموتى الذين ضربهم مثلاً للجهال شهداء بدر، فيحتج علينا بهم، أولئك أحياء كما نطق التنزيل‏.‏

وقال أبو عثمان بن الحداد‏:‏ وليس فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يذقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏ ما يعارض ما ثبت من عذاب القبر، فقال‏:‏ ‏(‏ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ الآية، فلما كانت حياة الشهداء قبل محشرهم ليست برادة، لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا يذوقون فيها الموت إلا الموتة الأولى‏}‏ ‏[‏الدخان‏:‏ 56‏]‏ ومن أنكر حياة الشهداء بعد موتهم قبل محشر الناس، وادعى أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أحياء عند ربهم يرزقون‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ يوم القيامة أبطل ما اقتضاه قوله‏:‏ ‏(‏ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 169‏]‏ لأن الشهداء وغيرهم من جميع الناس يتوافون يوم القيامة، ويستحيل فيمن وافاه غيره أن يقال فى الذى وافاه أنه سيلحقه، ويقال فيه بأنه خلفه‏.‏

قال غيره‏:‏ والأخبار فى عذاب القبر صحيحة متواترة لا يصح عليها التواطؤ، وإن لم يصح مثلها لم يصح شىء من أمر الدين‏.‏

واختلف أهل التأويل فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سنعذبهم مرتين‏}‏ ‏[‏التوبة‏:‏ 101‏]‏، قال الحسن، وابن جريج‏:‏ عذاب الدنيا وعذاب القبر، وقال مجاهد‏:‏ القتل والسباء، وأما قوله‏:‏ ‏(‏فاليوم تجزون عذاب الهون‏}‏ ‏[‏الأحقاف‏:‏ 20‏]‏ فى الآخرة‏.‏

وقال غيره‏:‏ لما بعثوا وصاروا إلى النار قالت الملائكة‏:‏ اليوم تجزون عذاب الهون، قال‏:‏ الهوان‏.‏

باب التَّعَوُّذِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ

- فيه‏:‏ عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِب، قَالَ‏:‏ خَرَجَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم وَقَدْ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَسَمِعَ صَوْتًا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏يَهُودُ تُعَذَّبُ فِى قُبُورِهَا‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ ابْنَةُ خَالِدِ أم سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ، أَنَّهَا سَمِعَتِ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ يَتَعَوَّذُ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَدْعُو‏:‏ ‏(‏اللَّهُمَّ إِنِّى أَعُوذُ بِكَ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ، وَمِنْ عَذَابِ النَّارِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَحْيَا وَالْمَمَاتِ، وَمِنْ فِتْنَةِ الْمَسِيحِ الدَّجَّالِ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذه الآثار تشهد للآثار التى فى الباب قبل هذا، أن عذاب القبر حق على ما ذهب إليه أهل السُّنَّة، ألا ترى الرسول استعاذ بالله منه، وقد عصمه الله وطهره، وغفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فينبغى لكل من علم أنه غير معصوم ولا مطهر أن يكثر التعوذ مما استعاذ منه نبيه، ففى أكرم الأكرمين أسوة‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا أخبر الله نبيه أنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فما وجه استعاذته صلى الله عليه وسلم من شىء قد علم أنه قد أعيذ منه‏؟‏‏.‏

فالجواب‏:‏ أن فى استعاذته صلى الله عليه وسلم من كل ما استعاذ منه إظهارًا للافتقار إلى الله، وإقرارًا بالنعم، واعترافًا بما يتجدد من شكره عليها ما يكون كفًا لها ألا ترى أنه كان يصلى حتى تتفطر قدماه فيقال له‏:‏ يا رسول الله، قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر، فيقول‏:‏ ‏(‏أفلا أكون عبدًا شكورًا‏)‏‏.‏

فمن عظمت عليه نعم الله وجب عليه أن يتلقاها بعظيم الشكر، لاسيما أنبياءه وصفوته من خلقه الذين اختارهم، وخشيةُ العباد لله على قدر علمهم به‏.‏

وفى استعاذته مما أُعيذ منه تعليم لأمته، وتنبيه لهم على الاقتداء به واتباع سُنته وامتثال طريقته، والله أعلم‏.‏

باب الْمَيِّتِ يُعْرَضُ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ

- فيه‏:‏ ابْن عُمَر، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ‏:‏ ‏(‏إِنَّ أَحَدَكُمْ إِذَا مَاتَ عُرِضَ عَلَيْهِ مَقْعَدُهُ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِىِّ، إِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَمِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ فَمِنْ أَهْلِ النَّارِ، فَيُقَالُ‏:‏ هَذَا مَقْعَدُكَ حَتَّى يَبْعَثَكَ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏)‏‏.‏

قال بعض أهل بلدنا‏:‏ معنى العرض فى هذا الحديث الإخبار بأن الله موضعُ أعمالكم، والجزاء لها عند الله، وأريد بالتكرير بالغداة والعشى تذكارهم بذلك، ولسنا نشك أن الأجساد بعد الموت والمساءلة هى فى الذهاب وأكل التراب لها والفناء، ولا يعرض شىء على فانٍ، فَبَانَ أن العرض الذى يدوم إلى يوم القيامة إنما هو على الأرواح خاصة، وذلك أن الأرواح لا تفنى، وأنها باقية إلى أن يصير العباد إلى الجنة أو النار‏.‏

وقال القاضى ابن الطيب‏:‏ اتفق المسلمون أنه لا غدو ولا عشى فى الآخرة، وإنما هو فى الدنيا، فهم معروضون بعد مماتهم على النار، وقيل‏:‏ يوم القيامة، ويوم القيامة يدخلون أشد العذاب، فمن عرض عليه النار غدوًا وعشيًا أحرى أن يسمع الكلام‏.‏

قال غيره‏:‏ واستدل بهذا الحديث من ذهب إلى أن الأرواح على أفنية القبور، وهو أصح ما ذهب إليه فى ذلك، لأن الأحاديث بذلك أثبت من غيرها‏.‏

قال الداودى‏:‏ ومما يدل على حياة الروح والنفس، وأنهما لا يفنيان قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الله يتوفى الأنفس حين موتها ‏(‏إلى‏)‏ مسمى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 42‏]‏، والإمساك لا يقع على الفانى‏.‏

باب كَلامِ الْمَيِّتِ عَلَى الْجَنَازَةِ

- فيه‏:‏ أَبُو سَعِيد، قَالَ‏:‏ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إِذَا وُضِعَتِ الْجِنَازَةُ، فَاحْتَمَلَهَا الرِّجَالُ عَلَى أَعْنَاقِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ صَالِحَةً، قَالَتْ‏:‏ قَدِّمُونِى، قَدِّمُونِى، وَإِنْ كَانَتْ غَيْرَ صَالِحَةٍ، قَالَتْ‏:‏ يَا وَيْلَهَا، أَيْنَ تَذْهَبُونَ بِهَا‏؟‏ يَسْمَعُ صَوْتَهَا كُلُّ شَىْءٍ إِلا الإنْسَانَ، وَلَوْ سَمِعَهَا الإنْسَانُ لَصَعِقَ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ فى هذا الحديث دليل أن روح الميت تتكلم بعد مفارقته لجسده، وقبل دخوله فى قبره، والكلام لا يكون إلا من الروح، وقد جاءت آثار تدل على معرفة الميت من يحمله ويدخله فى قبره، وروى الطبرى، قال‏:‏ حدثنا محمد بن يزيد الأدمى، حدثنا أبو عامر، حدثنا عبد الملك بن الحسن الحارثى، حدثنا سعيد بن عمرو بن سليمان الزرقى، قال‏:‏ سمعت رجلاً اسمه معاوية، أو ابن معاوية، قال‏:‏ سمعت من أبى سعيد الخدرى، عن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الميت ليعرف من يحمله ومن يغسله ومن يدليه فى قبره‏)‏‏.‏

وحدثنا محمد بن يزيد، حدثنا محمد بن عثمان بن صفوان، حدثنا حميد الأعرج، عن مجاهد، قال‏:‏ إذا مات الميت فملك قابض نفسه، فما من شىء إلا وهو يراه عند غسله، وعند حمله حتى يصل إلى قبره‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ إن قال قائل‏:‏ كيف ترجم البخارى باب ‏(‏كلام الميت على الجنازة‏)‏ وأدخل حديثًا يدل أن الجنازة‏:‏ الميت‏؟‏ قيل‏:‏ إنما ترجم ذلك لمعرفته باللغة، قال صاحب العين‏:‏ الجنَازة، بالفتح‏:‏ الميت، والجنِازة، بالكسر‏:‏ خشب السرير الذى يحمل عليه الميت، فإنما أراد كلام الميت على النعش، وبالله التوفيق‏.‏

باب مَا قِيلَ فِى أَوْلادِ الْمُسْلِمِينَ

وقَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِىِّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَنْ مَاتَ لَهُ ثَلاثَةٌ مِنَ الْوَلَدِ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، كَانَ لَهُ حِجَابًا مِنَ النَّارِ، أَوْ دَخَلَ الْجَنَّةَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَنَس، قَالَ‏:‏ قَالَ النّبِىّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏مَا مِنَ النَّاسِ مُسْلِمٌ يَمُوتُ لَهُ ثَلاثَةٌ، لَمْ يَبْلُغُوا الْحِنْثَ، إِلا أَدْخَلَهُ اللَّهُ الْجَنَّةَ بِفَضْلِ رَحْمَتِهِ إِيَّاهُمْ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ الْبَرَاء، قَالَ رسُول اللَّه لَمَّا تُوُفِّىَ إِبْرَاهِيمُ‏:‏ ‏(‏إِنَّ لَهُ مُرْضِعًا فِى الْجَنَّةِ‏)‏‏.‏

وقال بعض العلماء‏:‏ الثلاثة داخلة فى حيز الكثير، وقد يصاب المؤمن فيكون فى إيمانه من القوة ما يصبر للمصيبة، ولا يصبر لتردادها عليه، فلذلك صار من تكررت عليه المصائب فَصَبَر، أوْلَى بجزيل الثواب، والولد من أجل ما يسر به الإنسان لقد يرضى أن يفديه بنفسه، هذا هو المعهود فى الناس والبهائم، فلذلك قصد رسول الله إلى أعلى المصائب والحض على الصبر عليها‏.‏

وقد روى عنه أنه قال‏:‏ ‏(‏لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد فيحتسبهم إلا كانوا له جُنَّة من النار‏)‏، ومعنى الحِسْبَةِ‏:‏ الصبر لما ينزل به، والاستسلام لقضاء الله عليه، فإذا طابت نفسه على الرضا عن الله فى فعله، استكمل جزيل الأجر، وقد جاء أنه ليس شىء من الأعمال يبلغ مبلغ الرضا عن الله فى جميع النوازل، وهذا معنى قوله‏:‏ ‏(‏رضى الله عنهم ورضوا عنه‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 119‏]‏ يريد رضى أعمالهم، ورضوا عنه بما أجرى عليهم من قضائه، وما أجزل لهم من عطائه‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏لم يبلغوا الحنث‏)‏ يريد لم يبلغوا أن تجرى عليهم الأقلام بالأعمال، والحنث‏:‏ الذنب العظيم‏.‏

وقوله صلى الله عليه وسلم فى حديث أنس‏:‏ ‏(‏أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم‏)‏، هو دليل قاطع أن أولاد المسلمين فى الجنة، لأنه لا يجوز أن يرحم الله الآباء من أجل من ليس بمرحوم، ويشهد لصحة هذا قوله صلى الله عليه وسلم فى ابنه إبراهيم‏:‏ ‏(‏إن له مرضعًا فى الجنة‏)‏، وعلى هذا القول جمهور علماء المسلمين أن أطفال المسلمين فى الجنة إلا المجبرة، فإنهم عندهم فى المشيئة، وهو قول مجهول مردود بإجماع الحجة الذين لا يجوز عليهم الغلط، ولا يسوغ مخالفتهم‏.‏

باب أولاد المشركين

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاس، وأَبُو هُرَيْرَةَ، أن النّبِىّ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنْ أَوْلادِ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏اللَّهُ إِذْ خَلَقَهُمْ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا عَامِلِينَ‏)‏‏.‏

- وفيه‏:‏ أَبُو هُرَيْرَةَ، قَالَ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ، صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَثَلِ الْبَهِيمَةِ تُنْتَجُ الْبَهِيمَةَ، هَلْ تَرَى فِيهَا جَدْعَاءَ‏)‏‏.‏

بَاب

- فيه‏:‏ سَمُرَةَ بْنِ جُنْدَبٍ، كَانَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم إِذَا صَلَّى صَلاةً أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏مَنْ رَأَى مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا‏؟‏‏)‏ فَإِنْ رَأَى أَحَدٌ قَصَّهَا، فَيَقُولُ‏:‏ ‏(‏مَا شَاءَ اللَّهُ‏)‏، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ‏:‏ ‏(‏هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمْ رُؤْيَا‏؟‏‏)‏ قُلْنَا‏:‏ لا، قَالَ‏:‏ ‏(‏لَكِنِّى رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِى، فَأَخَذَا بِيَدِى، فَأَخْرَجَانِى إِلَى الأرْضِ الْمُقَدَّسَةِ، فَإِذَا رَجُلٌ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ بِيَدِهِ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ- قَالَ بَعْضُ أَصْحَابِنَا عَنْ مُوسَى‏:‏ كَلُّوبٌ مِنْ حَدِيدٍ يدخله فِى شِدْقِهِ- حَتَّى يَبْلُغَ قَفَاهُ، ثُمَّ يَفْعَلُ بِشِدْقِهِ الآخَرِ مِثْلَ ذَلِكَ، وَيَلْتَئِمُ شِدْقُهُ هَذَا، فَيَعُودُ فَيَصْنَعُ مِثْلَهُ، قُلْتُ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ قَالا‏:‏ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى رَأْسِهِ بِفِهْرٍ، أَوْ صَخْرَةٍ، فَيَشْدَخُ بِهِ رَأْسَهُ، فَإِذَا ضَرَبَهُ تَدَهْدَهَ الْحَجَرُ، فَانْطَلَقَ إِلَيْهِ لِيَأْخُذَهُ، فَلا يَرْجِعُ إِلَى هَذَا حَتَّى يَلْتَئِمَ رَأْسُهُ، وَعَادَ رَأْسُهُ كَمَا هُوَ، وَعَادَ إِلَيْهِ فَضَرَبَهُ، قُلْتُ‏:‏ مَنْ هَذَا‏؟‏ قَالا‏:‏ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا إِلَى ثَقْبٍ مِثْلِ التَّنُّورِ، أَعْلاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، يَتَوَقَّدُ تَحْتَهُ نَارًا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا حَتَّى كَادَوا أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا، وَفِيهَا رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ قَالا‏:‏ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى أَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ مِنْ دَمٍ، فِيهِ رَجُلٌ قَائِمٌ عَلَى وَسَطِ النَّهَرِ- قَالَ يَزِيدُ وَوَهْبُ بْنُ جَرِيرٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ حَازِمٍ‏:‏ وَعَلَى شَطِّ النَّهَرِ- رَجُلٌ بَيْنَ يَدَيْهِ حِجَارَةٌ، فَأَقْبَلَ الرَّجُلُ الَّذِى فِى النَّهَرِ، فَإِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ، رَمَى الرَّجُلُ بِحَجَرٍ فِى فِيهِ، فَرَدَّهُ حَيْثُ كَانَ، فَجَعَلَ كُلَّمَا جَاءَ لِيَخْرُجَ، رَمَى فِى فِيهِ بِحَجَرٍ، فَيَرْجِعُ كَمَا كَانَ، فَقُلْتُ‏:‏ مَا هَذَا‏؟‏ قَالا‏:‏ انْطَلِقْ، فَانْطَلَقْنَا حَتَّى انْتَهَيْنَا إِلَى رَوْضَةٍ خَضْرَاءَ، فِيهَا شَجَرَةٌ عَظِيمَةٌ، وَفِى أَصْلِهَا شَيْخٌ وَصِبْيَانٌ، وَإِذَا رَجُلٌ قَرِيبٌ مِنَ الشَّجَرَةِ بَيْنَ يَدَيْهِ نَارٌ يُوقِدُهَا، فَصَعِدَا بِى فِى الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلانِى دَارًا لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ، ثُمَّ أَخْرَجَانِى مِنْهَا، فَصَعِدَا بِى الشَّجَرَةَ فَأَدْخَلانِى دَارًا هِىَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ، قُلْتُ‏:‏ طَوَّفْتُمَانِى اللَّيْلَةَ، فَأَخْبِرَانِى عَمَّا رَأَيْتُ، قَالا‏:‏ نَعَمْ، أَمَّا الَّذِى رَأَيْتَهُ يُشَقُّ شِدْقُهُ، فَكَذَّابٌ يُحَدِّثُ بِالْكَذْبَ، فَتُحْمَلُ عَنْهُ حَتَّى تَبْلُغَ الآفَاقَ، فَيُصْنَعُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِى رَأَيْتَهُ يُشْدَخُ رَأْسُهُ، فَرَجُلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْقُرْآنَ، فَنَامَ عَنْهُ بِاللَّيْلِ، وَلَمْ يَعْمَلْ بما فِيهِ بِالنَّهَارِ، يُفْعَلُ بِهِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَالَّذِي رَأَيْتَهُ فِى الثَّقْبِ فَهُمُ الزُّنَاةُ، وَالَّذِى رَأَيْتَهُ فِى النَّهَرِ آكِلُوا الرِّبَا، وَالشَّيْخُ فِى أَصْلِ الشَّجَرَةِ إِبْرَاهِيمُ، وَالصِّبْيَانُ حَوْلَهُ أَوْلادُ النَّاسِ، وَالَّذِى يُوقِدُ النَّارَ مَالِكٌ خَازِنُ النَّارِ، وَالدَّارُ الأولَى الَّتِى دَخَلْتَها دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ، وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِى، فَإِذَا فَوْقِى مِثْلُ السَّحَابِ، قَالا‏:‏ ذَاكَ مَنْزِلُكَ، قُلْتُ‏:‏ دَعَانِى أَدْخُلْ مَنْزِلِى، قَالا‏:‏ إِنَّهُ بَقِىَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ‏)‏‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ جهل قوم معنى الفطرة فى هذا الحديث، وقالوا‏:‏ إنها الإسلام، فتأولوا فى قوله‏:‏ ‏(‏فطرت الله التى فطر الناس عليها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ يعنى دين الإسلام، روى هذا عن أبى هريرة وعكرمة، والحسن، وإبراهيم، والضحاك، وقتادة، والزهرى، وقال جماعة من العلماء وأهل اللغة‏:‏ الفطرة فى هذا الحديث‏:‏ الخلقة التى خلق عليها المولود المضطرة إلى الإفداء يريد كأنه قال- عليه السلام-‏:‏ كل مولود يولد على خلقة يعرف بها ربه إذا بلغ مبلغ المعرفة، يريد خلقة مخالفة لخلقة البهائم التى لا تصل بخلقتها إلى معرفة، واحتجوا على أن الفطرة‏:‏ الخلقة بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاطر السموات والأرض‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 14‏]‏ يعنى خالقهن، وبقوله‏:‏ ‏(‏وما لى لا أعبد الذى فطرنى‏}‏ ‏[‏يس‏:‏ 22‏]‏ أى خلقنى، وقال‏:‏ المراد بقوله‏:‏ ‏(‏فطرت الله التى فطر الناس عليها‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ الخلقة، بدليل قوله‏:‏ ‏(‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ يعنى لا تبديل لخلقته عما خلقه عليه‏.‏

وقد ثبت عن الرسول قال‏:‏ ‏(‏لما خلق الله آدم مسح ظهره بيمينه، وكلتا يديه يمين، ثم قال‏:‏ خلقت هؤلاء للجنة، وبعمل أهل الجنة يعملون، ثم مسح الأخرى، وقال‏:‏ خلقت هؤلاء للنار، وبعمل أهل النار يعملون‏)‏، فلما صح عندنا هذا الحديث مع تصديق الله له بقوله‏:‏ ‏(‏وإذ أخذ ربك من بنى آدم ‏(‏إلى‏)‏ بلى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ علمنا أن أخذه لهم من ظهر آدم إنما كان للإشهاد عليهم، وكان هذا الأخذ هو الاختراع الأول فى إخراجهم من العدم إلى الوجود، ثم ردهم فى ظهور آبائهم على ما جاء فى الخبر‏.‏

فبان أن هذه الفطرة هى الخلقة الأولى التى فطر الناس عليها لا تبديل لها، وقد جاء فى الأخبار أنه حين أشهدهم على أنفسهم أو جميعهم على أنفسهم بالعبودية ولله تعالى بالربوبية، لكنه كان إقرار أصحاب اليمين بألسنتهم، وقلوبهم ليتم علم الله بهم، ومراده فيهم، وإقرار الآخرين بألسنتهم دون قلوبهم خذلانًا من الله ليتم مراده، وعلمه فيهم أنهم من أهل النار‏.‏

فإذا صاروا فى بطون أمهاتهم ظهر فيهم بعض علم الله السابق فيسأل الملكُ الله عن خلقه‏:‏ الأنثى والذكر، والسعادة والشقاوة، والرزق والأجل، فيكتب ذلك فى بطن أمه، فبان أن الفطرة التى يولد عليها هى الخلقة الأولى التى سبقت له، التى لا يجوز تبديلها، فإن كان فى الفطرة الأولى مؤمنًا ولد مؤمنًا، وإن كان فيها كافرًا ولد كافرًا على ما سبق له فى علم الله، يصدق ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ لكن لا يظهر عليه شىء من ذلك فى حال ولادته، وإنما يظهر عليه إذا ظهر عمله بالقول والجوارح‏.‏

فإن قيل‏:‏ فما معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏فأبواه يهودانه، أو ينصرانه‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، فينبغى أن يكون سالمًا من اليهودية، أو النصرانية حين تلده أمه، ألا ترى قوله‏:‏ ‏(‏كما تنتج الإبل من بهيمة جمعاء، هل ترى فيها جدعاء‏)‏‏.‏

قيل له‏:‏ فى قوله‏:‏ ‏(‏كل مولود يولد على الفطرة‏)‏ بيان أن الفطرة الإيمان العام، وإنما فيه أنه يولد على تلك الخلقة التى لم يظهر منها إيمان ولا كفر، لكن لما حملهم آباؤهم على دينهم ظهر منهم ما حملوهم عليه من يهودية أو نصرانية، ثم أراد الله إمضاء ما علمه وقدره فى كل واحد منهم بما أجرى له فى بُدِّ الأمر من كفر، أو إيمان، ختم لهم به‏.‏

يدل على ذلك حديث ابن مسعود أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إن الرجل ليعمل بعمل أهل النار، حتى لا يكون بينها وبينه إلا ذراع، أو قيد ذراع، فيسبق عليه الكتاب الأول فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها‏)‏‏.‏

وقال فى أهل النار مثل ذلك‏.‏

فبان أن الكتاب الأول هو المعمول عليه الذى لا يجوز تبديله، ولو كانت الفطرة‏:‏ الإسلام لما جاز أن يكون أحدٌ كافرًا لقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا تبديل لخلق الله‏}‏ ‏[‏الروم‏:‏ 30‏]‏ لأنه لا يجوز أن يكفر من خلقه الله للإيمان‏.‏

وقد اختلف العلماء فى أطفال المشركين، فقال أكثرهم‏:‏ هم فى المشيئة، وتأولوا فى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إلا أصحاب اليمين‏}‏ ‏[‏المدثر‏:‏ 39‏]‏، قال‏:‏ هم أطفال المؤمنين، وقيل‏:‏ هم أصحاب الملائكة، وقال آخرون‏:‏ حكم الأطفال حكم آبائهم فى الدنيا والآخرة، وهم مؤمنون بإيمانهم، وكافرون بكفرهم، واحتجوا بقوله صلى الله عليه وسلم فى أطفال المشركين يصابون فى الحرب‏:‏ ‏(‏هم من آبائهم‏)‏‏.‏

وقال آخرون‏:‏ أولاد الكفار يمتحنون فى الآخرة‏.‏

وقال آخرون‏:‏ أولاد المشركين فى الجنة مع أولاد المسلمين، واحتجوا بحديث سمرة ابن جندب، ذكره البخارى فى كتاب التعبير‏:‏ ‏(‏وأما الرجل الطويل الذى فى الروضة فإنه إبراهيم، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة، قال بعض المسلمين‏:‏ يا رسول الله، فأولاد المشركين‏؟‏ فقال رسول الله‏:‏ وأولاد المشركين‏)‏‏.‏

وهذه الحجة قاطعة، وهذه الرواية يفسرها ما جاء فى حديث هذا الباب أن الشيخ إبراهيم والصبيان حوله أولاد الناس، لأن هذا اللفظ يقتضى عمومه لجميع الناس مؤمنهم وكافرهم، وهذا القول أصح ما فى هذا الباب من طريق الآثار وصحيح الاعتبار‏.‏

فإن قيل‏:‏ فإذا صح هذا القول فى أطفال المشركين، فما معنى قوله‏:‏ ‏(‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏؟‏‏)‏ وهذا يعارض حديث سمرة الذى بيَّن فيه حكمهم، أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين‏.‏

قيل‏:‏ هذا يحتمل وجوهًا من التأويل‏:‏ أحدها‏:‏ أن يكون قوله‏:‏ ‏(‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏)‏، قيل‏:‏ أن يعلمه الله أنهم فى الجنة مع أولاد المسلمين، لأنه لم يكن ينطق عن الهوى، وإنما ينطق عن الوحى‏.‏

ويحتمل قوله‏:‏ ‏(‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏)‏ أى على أى دين كان يميتهم لو عاشوا فبلغوا العمل، فأما إذ عدم منهم العمل، فهم فى رحمة الله التى ينالها من لا ذنب له‏.‏

وقيل‏:‏ قوله‏:‏ ‏(‏الله أعلم بما كانوا عاملين‏)‏ مجمل يفسره قوله‏:‏ ‏(‏وإذ أخذ ربك من بنى آدم من ظهورهم‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 172‏]‏ الآية، فهذا إقرار عام يدخل فيه أولاد المشركين والمسلمين، فمن مات منهم قبل بلوغ الحنث ممن أقر الإقرار أولاد الناس كلهم، فهو على إقراره المتقدم لا يقضى له بغيره، لأنه لم يدخل عليه ما ينقضه إلى أن يبلغ الحنث، فسقطت المعارضة بين الآثار، فهذه الوجوه المحتملة‏.‏

وأما من قال‏:‏ حكمهم حكم آبائهم، فهو مردود بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا تزر وازرة وزر أخرى‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 164‏]‏ وإنما حكم لهم بحكمهم فى الدنيا لا فى أحكام الآخرة، أى أنهم إن أصيبوا فى التبييت والغارة لا قود فيهم ولا دية، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والصبيان فى الحرب‏.‏

وأما من قال‏:‏ إنهم يمتحنون فى الآخرة، فهو قول لا يصح، لأن الآثار الواردة بذلك ضعيفة لا تقوم بها حجة، والآخرة دار جزاء ليست دار عمل وابتلاء‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏كما تناتج الإبل من بهيمة جمعاء‏)‏ مجتمعة الخلق صحيحة ‏(‏هل تحس فيها من جدعاء‏)‏ يقول‏:‏ هل ترى فيها من جدع‏؟‏ أى نقصان حين تنتج، وإنما يصيبها الجدع والنقصان بعد ذلك، فكذلك يُهودُ هؤلاء أبناءهم وينصرونهم بعد أن كانوا على الفطرة كما أن المنتوج من الإبل لولا أن هؤلاء قطعوا أذنه لكان صحيحًا، وذلك كله بقدر الله‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏بيده كلوب‏)‏ والكلاب‏:‏ خشبة فى رأسها عُقَّافَة، وقوله‏:‏ ‏(‏تدهده‏)‏ يقال‏:‏ دهدهت الحجر، ودهديته إذا دحرجته، أدهدهه وأدهديه دهدهة ودهاهًا ودهدًا‏.‏

باب مَوْتِ يَوْمِ الاثْنَيْنِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ دَخَلْتُ عَلَى أَبِى بَكْرٍ الصديق، فَقَالَ‏:‏ فِى كَمْ كَفَّنْتُمُ النَّبِىَّ صلى الله عليه وسلم‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ فِى ثَلاثَةِ أَثْوَابٍ بِيضٍ سَحُولِيَّةٍ، لَيْسَ فِيهَا قَمِيصٌ وَلا عِمَامَةٌ، فَقَالَ لَهَا‏:‏ فِى أَىِّ يَوْمٍ تُوُفِّىَ‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، قَالَ‏:‏ فَأَىُّ يَوْمٍ هَذَا‏؟‏ قَالَتْ‏:‏ يَوْمُ الإثْنَيْنِ، قَالَ‏:‏ أَرْجُو فِيمَا بَيْنِى وَبَيْنَ اللَّيْلِ، فَنَظَرَ إِلَى ثَوْبٍ كَانَ يُمَرَّضُ فِيهِ، بِهِ رَدْعٌ مِنْ زَعْفَرَانٍ، فَقَالَ‏:‏ اغْسِلُوا ثَوْبِى هَذَا، وَزِيدُوا عَلَيْهِ ثَوْبَيْنِ، وَكَفِّنُونِى فِيهما، قُلْتُ‏:‏ إِنَّ هَذَا خَلَقٌ، قَالَ‏:‏ إِنَّ الْحَىَّ أَحَقُّ بِالْجَدِيدِ مِنَ الْمَيِّتِ، إِنَّمَا هُوَ لِلْمُهْلَةِ، فَلَمْ يُتَوَفَّ حَتَّى أَمْسَى مِنْ لَيْلَةِ الثُّلاثَاءِ، وَدُفِنَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ إنما سأل أبو بكر الصديق ابنته عن أى يوم توفى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم طمعًا أن يوافق ذلك اليوم تبركًا به، وقديمًا أحب الناس التبرك بأثواب الصالحين، وموافقتهم فى المحيا والممات، رغبة فى الخير، وحرصًا عليه، كفعل ابن عمر فى كثير من حركات النبى صلى الله عليه وسلم وآثاره التى ليست بسنن، فكان يقف فى الموضع الذى وقف النبى ويدور بناقته فى المكان الذى أدار فيه النبى ناقته، وهذا كله وإن لم يوجب فضلاً، فإن ابن عمر إنما فعل ذلك محبة فى النبى، ومحافظة على اقتفاء آثاره، ومن اقتدى به صلى الله عليه وسلم فيما لا يلزم من حركاته كان أحرص على الاقتداء به فيما يلزم اتباعه فيه‏.‏

وقد اتفق أهل السُّنَّة أن النبى صلى الله عليه وسلم ولد يوم الاثنين، وأنزل عليه يوم الاثنين، وبعث يوم الاثنين، ودخل المدينة يوم الاثنين، وتوفى يوم الاثنين، وكان يصوم يوم الاثنين والخميس، وذكر مالك فى الموطأ، عن أبى هريرة، أنه قال‏:‏ ‏(‏تعرض أعمال الناس كل جمعة مرتين‏:‏ يوم الاثنين والخميس، فيغفر لكل عبد مؤمن إلا عبدًا كانت بينه وبين أخيه شحناء‏)‏، فهذه فضيلة يوم الاثنين والخميس‏.‏

وقد روى عن النبى صلى الله عليه وسلم فيمن مات يوم الجمعة فضيلة، ذكرها ابن أبى الدنيا، قال‏:‏ حدثنا أحمد بن الفرج الحمصى، قال‏:‏ حدثنا بقية بن الوليد، حدثنا معاوية ابن سعيد، عن أبى قبيل، عن عبد الله بن عمرو بن العاص، قال‏:‏ سمعت النبى صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏(‏من مات يوم الجمعة أو ليلة الجمعة وقاه الله فتان القبر‏)‏‏.‏

وروى ابن وهب، عن الليث بن سعد، عن أبى عثمان الوليد بن الوليد، أن أبا عبيدة بن عقبة، قال‏:‏ ‏(‏من مات يوم الجمعة أمن فتنة القبر‏)‏، وقال‏:‏ إنى ذكرته للقاسم بن محمد، فقال‏:‏ صدق أبو عبيدة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏ردع من زعفران‏)‏ أى لطخ، قال أبو على‏:‏ يقال‏:‏ بدا من الزعفران ردعه أى ملتطخه‏.‏

قال أبو عبيدة‏:‏ وقوله‏:‏ ‏(‏الحى أحوج إلى الجديد‏)‏ خلاف قول من يقول‏:‏ يتزاورون فى أكفانهم، فيجب تحسينها، ألا تراه يقول‏:‏ ‏(‏فإنما هو للمهلة‏)‏ ويشهد لذلك قول حذيفة حين أتى بكفنه ريطتين، فقال‏:‏ لا تغالوا بكفنى، الحى أحوج إلى الجديد من الميت، أى لا ألبث إلا يسيرًا حتى أبدل منهما خيرًا منهما، أو شرًا منهما، ومنه قول ابن الحنفية‏:‏ ليس للميت من الكفن شىء، وإنما هو تكرمة للحى‏.‏

وأما من خالف هذا ورأى تحسين الأكفان، فروى عن عمر بن الخطاب، أنه قال‏:‏ أحسنوا أكفان موتاكم، فإنهم يبعثون فيها يوم القيامة‏.‏

وعن معاذ بن جبل مثله، وأوصى ابن مسعود أن يكفن فى حلة بمائتى درهم‏.‏

وروى روح، عن زكريا بن إسحاق، قال‏:‏ حدثنا أبو الزبير، عن جابر، أن النبى صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏(‏إذا ولى أحدكم أخاه فليحسن كفنه‏)‏‏.‏

قال ابن المنذر‏:‏ وبحديث جابر قال الحسن وابن سيرين، وكان إسحاق يقول‏:‏ يغالى بالكفن إذا كان موسرًا، وإن كان فقيرًا فلا يغال به‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏إنما هو للمهلة‏)‏ قال أبو عبيد‏:‏ المهل فى هذا الحديث‏:‏ الصديد والقيح، والمهل فى غير هذا‏:‏ كل فلز أذيب كالذهب والفضة والنحاس‏.‏

وقال أبو عمرو‏:‏ المهل فى حديث أبى بكر الصديق‏:‏ القيح، وفى غيره‏:‏ دُرْدِىّ الزيت‏.‏

وقال الأصمعى‏:‏ حدثنى رجل، وكان فصيحًا، أن أبا بكر قال‏:‏ إنما هو للمهلة والتراب‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ بكسر الميم يقال للمهلة‏.‏

وقال ابن دريد‏:‏ فى هذا الحديث‏:‏ ‏(‏إنما هو للمهلة‏)‏ قال‏:‏ المهلة‏:‏ صديد الميت، زعموا، والمهلة‏:‏ ضرب من القطران، والمهلة‏:‏ ما سلخت من الحرة من رماد أو غيره‏.‏

باب مَوْتِ الْفَجْأَةِ بَغْتَةِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنَّ رَجُلا قَالَ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ إِنَّ أُمِّى افْتُلِتَتْ نَفْسُهَا، وَأَظُنُّهَا لَوْ تَكَلَّمَتْ تَصَدَّقَتْ، فَهَلْ لَهَا أَجْرٌ إِنْ تَصَدَّقْتُ عَنْهَا‏؟‏ قَالَ‏:‏ ‏(‏نَعَمْ‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ الافتلات عند العرب‏:‏ المباغتة، يقول‏:‏ ماتت بغتة، وإنما هو مأخوذ من الفلتة‏.‏

وروى وكيع عن عبد الله بن الوليد، عن عبد الله بن عبيد بن عمير، عن عائشة، قالت‏:‏ سألت رسول الله عن موت الفجأة، قال‏:‏ ‏(‏راحة على المؤمن، وأسف على الفاجر‏)‏ والأسف‏:‏ الغضب، ويحتمل أن يكون ذلك، والله أعلم، لما فى موت الفجأة من خوف حرمان الوصية، وترك الإعداد للمعاد، والاغترار الكاذبة، والتسويف بالتوبة‏.‏

وقد روى من حديث يزيد الرقاشى، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ كنا نمشى مع الرسول فجاء رجل، فقال‏:‏ يا رسول الله، مات فلان، فقال‏:‏ ‏(‏أليس كان معنا آنفًا‏)‏‏؟‏ قالوا‏:‏ بلى، قال‏:‏ ‏(‏سبحان الله، كأنه أخذه على غصب، المحروم من حرم وصيته‏)‏‏.‏

ذكر هذين الحديثين ابن أبى الدنيا، قال‏:‏ حدثنا إبراهيم بن إسحاق، قال‏:‏ حدثنا مسلم بن إبراهيم، قال‏:‏ حدثنا يزيد بن كعب الأزدى، قال‏:‏ حدثنا ابن كريز، عن أنس بن مالك، قال‏:‏ من أشراط الساعة حفز الموت، قيل‏:‏ يا أبا حمزة، ما حفز الموت‏؟‏ قال‏:‏ موت الفجأة‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏فهل لها من أجر إن تصدقت عنها‏؟‏ قال‏:‏ نعم‏)‏ هو كقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏ينقطع عمل ابن آدم بعد موته إلا من ثلاث‏:‏ صدقة تجرى بعده، أو علم علمه يعمل به، أو ابن صالح يدعو له‏)‏‏.‏

باب مَا جَاءَ فِى قَبْرِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم وَأَبِى بَكْرٍ وَعُمَرَ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، أَنْ الرَسُول كَانَ يتفقد فِى مَرَضِهِ‏:‏ ‏(‏أَيْنَ أَنَا الْيَوْمَ‏؟‏ أَيْنَ أَنَا غَدًا‏)‏، اسْتِبْطَاءً لِيَوْمِ عَائِشَةَ، فَلَمَّا كَانَ يَوْمِى قَبَضَهُ اللَّهُ بَيْنَ سَحْرِى وَنَحْرِى، وَدُفِنَ فِى بَيْتِى‏.‏

وقالتْ عَائِشَة‏:‏ قَالَ صلى الله عليه وسلم فِى مَرَضِهِ الَّذِى توفى فيه‏:‏ ‏(‏لَعَنَ اللَّهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى، اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ، لَوْلا ذَلِكَ لَأُبْرِزَ قَبْرُهُ غَيْرَ أَنَّهُ خَشِىَأَنَّ يُتَّخَذَ مَسْجِدًا‏)‏‏.‏

وقال سُفْيَانَ التَّمَّارِ‏:‏ أَنَّهُ رَأَى قَبْرَ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم مُسَنَّمًا‏.‏

وقال عُرْوَةَ‏:‏ لَمَّا سَقَطَ عَلَيْهِمُ الْحَائِطُ فِى زَمَانِ الْوَلِيدِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ أَخَذُوا فِى بِنَائِهِ، فَبَدَتْ لَهُمْ قَدَمٌ، فَفَزِعُوا، وَظَنُّوا أَنَّهَا قَدَمُ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَمَا وَجَدُوا أَحَدًا يَعْلَمُ ذَلِكَ حَتَّى قَالَ لَهُمْ عُرْوَةُ‏:‏ لا وَاللَّهِ مَا هِىَ قَدَمُ النَّبِىُّ مَا هِىَ إِلا قَدَمُ عُمَرَ‏.‏

وأوصت عَائِشَةَ ابْن الزُّبَيْر‏:‏ لا تَدْفِنِّى مَعَهُمْ، وَادْفِنِّى مَعَ صَوَاحِبِى بِالْبَقِيعِ، لا أُزَكَّى بِهِ أَبَدًا‏.‏

- وفيه‏:‏ عُمَر، أنه قَالَ لابنه عَبْدَ اللَّه‏:‏ اذْهَبْ إِلَى عَائِشَةَ، أُمِّ الْمُؤْمِنِينَ، فَقُلْ‏:‏ يَقْرَأُ عُمَرُ عَلَيْكِ السَّلامَ، ثُمَّ سَلْهَا أَنْ أُدْفَنَ مَعَ صَاحِبَىَّ، قَالَتْ‏:‏ كُنْتُ أُرِيدُهُ لِنَفْسِى فَلأوثِرَنَّهُ الْيَوْمَ عَلَى نَفْسِى، فَلَمَّا أَقْبَلَ قَالَ لَهُ‏:‏ مَا لَدَيْكَ‏؟‏ قَالَ‏:‏ أَذِنَتْ لَكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ‏:‏ مَا كَانَ شَىْءٌ أَهَمَّ إِلَىَّ مِنْ ذَلِكَ الْمَضْجَعِ، فَإِذَا قُبِضْتُ، فَاحْمِلُونِى، ثُمَّ سَلِّمُوا، ثُمَّ قُلْ‏:‏ يَسْتَأْذِنُ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ، فَإِنْ أَذِنَتْ لِى فَادْفِنُونِى، وَإِلا فَرُدُّونِى إِلَى مَقَابِرِ الْمُسْلِمِينَ، إِنِّى لا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِهَذَا الأمْرِ مِنْ هَؤُلاءِ النَّفَرِ الَّذِينَ تُوُفِّىَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَهُوَ عَنْهُمْ رَاضٍ، فَمَنِ اسْتَخْلَفُوا بَعْدِى، فَهُوَ الْخَلِيفَةُ، فَاسْمَعُوا لَهُ وَأَطِيعُوا، فَسَمَّى عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَطَلْحَةَ وَالزُّبَيْرَ وَعَبْدَالرَّحْمَنِ بْنَ عَوْفٍ وَسَعْدَ بْنَ أَبِى وَقَّاصٍ، وَوَلَجَ عَلَيْهِ شَابٌّ مِنَ الأنْصَارِ، فَقَالَ‏:‏ أَبْشِرْ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، بِبُشْرَى اللَّهِ، كَانَ لَكَ مِنَ الْقَدَمِ فِى الإسْلامِ مَا قَدْ عَلِمْتَ، ثُمَّ اسْتُخْلِفْتَ فَعَدَلْتَ، ثُمَّ الشَّهَادَةُ بَعْدَ هَذَا كُلِّهِ، فَقَالَ‏:‏ لَيْتَنِى يَا ابْنَ أَخِى، وَذَلِكَ كَفَافًا لا عَلَىَّ وَلا لِى، أُوصِي الْخَلِيفَةَ مِنْ بَعْدِى بِالْمُهَاجِرِينَ الأوَّلِينَ خَيْرًا، أَنْ يَعْرِفَ لَهُمْ حَقَّهُمْ، وَأَنْ يَحْفَظَ لَهُمْ حُرْمَتَهُمْ، وَأُوصِيهِ بِالأنْصَارِ خَيْرًا‏:‏ ‏(‏الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإيمَانَ ‏(‏أَنْ يُقْبَلَ مِنْ مُحْسِنِهِمْ، وَيُعْفَى عَنْ مُسِيئِهِمْ، وَأُوصِيهِ بِذِمَّةِ اللَّهِ، وَذِمَّةِ رَسُولِهِ، أَنْ يُوفَى لَهُمْ بِعَهْدِهِمْ، وَأَنْ يُقَاتَلَ مِنْ وَرَائِهِمْ، وَأَنْ لا يُكَلَّفُوا فَوْقَ طَاقَتِهِمْ‏.‏

قال المؤلف‏:‏ غرض البخارى فى هذا الحديث، والله أعلم، أن يبين فضل أبى بكر وعمر بما لا يشركهما فيه أحد، وذلك أنهما كانا وزيرى رسول الله صلى الله عليه وسلم فى حياته، وعادا ضجيعيه بعد مماته، فضيلة خصهما الله بها، وكرامة حباهما بها، لم تحصل لأحد، ألا ترى وصية عائشة إلى ابن الزبير أن لا يدفنها معهم خشية أن تزكى بذلك، وهذا من تواضعها وإقرارها بالحق لأهله وإيثارها به على نفسها من هو أفضل منها، ولم تر أن تُزَكَّى بدفنها مع الرسول، ورأت عمر بن الخطاب لذلك أهلاً‏.‏

وإنما استأذنها عمر فى ذلك ورغب إليها فيه، لأن الموضع كان بيتها، وكان لها فيه حق، وكان لها أن تؤثر به نفسها لذلك، فآثرت به عمر، وقد كانت عائشة رأت رؤيا دلتها على ما فعلت حين رأت ثلاثة أقمار سقطن فى حجرها، فقصتها على أبى بكر الصديق، فلما توفى رسول الله، ودفن فى بيتها قال أبو بكر‏:‏ هذا أحد أقمارك، وهو خيرها‏.‏

فيه من الفقه‏:‏ الحرص على مجاورة الموتى الصالحين فى القبور طمعًا أن تنزل عليهم رحمة فتصيب جيرانهم، أو رغبة أن ينالهم دعاء من يزورهم فى قبورهم من الصالحين‏.‏

وقول عمر‏:‏ ‏(‏فإذا قبضت فاحملونى، ثم قل‏:‏ يستأذن عمر‏)‏، ففبه من الفقه‏:‏ أن من وُعِدَ أنه يجوز له الرجوع فيها، ولا يقضى عليه بالوفاء بها، لأن عمر لو علم أنه لا يجوز لعائشة الرجوع فى عدتها، لما قال ذلك، وسيأتى فى كتاب الهبة ما يلزم من العدة وما لا يلزم منها، واختلاف الناس فيها، إن شاء الله‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أنه من بعث رسولاً فى حاجة مهمة أن له أن يسأل الرسول قبل وصوله إليه، وقبل إيراده الرسالة عليه، ولا يُعدُّ ذلك من قلة الصبر، ولا يُذُّم فاعله بل هو من الحرص على الخير، لقوله لابنه وهو مُقبلٌ‏:‏ ما لديك‏.‏

وفيه‏:‏ أن الخليفة مباح له أن لا يستخلف على المسلمين غيره، لأن رسول الله لم يستخلف أحدًا، وأن للإمام أن يترك الأمر شورى بين الأمة إذا علم أن فى الناس بعده من يحسن الاختيار للأمة‏.‏

وفيه‏:‏ إنصاف عمر وإقراره بفضل أصحابه‏.‏

وفيه‏:‏ أن المدح فى الوجه بالحق لا يُذم المادح به، لأن عمر لم ينه الأنصارى حين ذكر فضائله، فبان بهذا أن المدح فى الوجه المنهى عنه إنما هو المدح بالباطل‏.‏

وفيه‏:‏ أن الرجل الفاضل ينبغى له أن يخاف على نفسه ولا يثق بعمله، ويكون الغالب عليه الخشية، ويصغر نفسه، لقوله‏:‏ ليتنى تخلصت من ذلك كفافًا، وقد سئلت عائشة عن قول الله تعالى‏:‏ ‏{‏والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 60‏]‏، فقالت‏:‏ نعم، الذين يعملون الأعمال الصالحة ويخافون ألا تتقبل منهم، وعلى هذا مضى خيار السلف، كانوا من عبادة ربهم فى الغاية القصوى، ويعدُّون أنفسهم فى الغاية السفلى خوفًا على أنفسهم، ويستقلون لربهم ما يستكثره أهل الاغترار‏.‏

فقد ثبت عن عمر أنه تناول تبنة من الأرض، فقال‏:‏ يا ليتنى هذه التبنة، يا ليتنى لم أك شيئًا، يا ليت أمى لم تلدنى، يا ليتنى كنت نسيًا منسيًا، وقال‏:‏ لو كانت لى الدنيا لافتديت بها من النار ولم أرها‏.‏

وقال قتادة‏:‏ قال أبو بكر الصديق‏:‏ وددت أنى كنت خضرة تأكلنى الدواب‏.‏

وقالت عائشة عند موتها‏:‏ وددت أنى كنت نسيًا منسيًا‏.‏

وقال أبو عبيدة‏:‏ وددت أنى كبش يذبحنى أهلى يأكلون لحمى ويحسون مرقى‏.‏

وقال عمران بن حصين‏:‏ وددت أنى رماد على أكمة تسفينى الرياح فى يوم عاصف‏.‏

ذكر ذلك كله الطبرى، وسيأتى فى كتاب الزهد والرقائق، باب ‏(‏الخوف من الله‏)‏ زيادة فى هذا المعنى، إن شاء الله‏.‏

وفيه‏:‏ أن الرجل الفاضل والعالم ينبغى له نصح الخليفة، وأن يوصيه بالعدل وحسن السيرة فيمن ولاه الله رقابهم من الأمة، وأن يحضه على مراعاة أمور المسلمين وتفقد أحوالهم، وأن يعرف الحق لأهله‏.‏

وفيه من الفقه‏:‏ أن الرجل الفاضل ينبغى أن ‏[‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏]‏‏.‏

وفى استبطاء النبى صلى الله عليه وسلم يوم عائشة من الفقه‏:‏ أنه يجوز للرجل الفاضل الميل بالمحبة إلى بعض أهله أكثر من بعض، وأنه لا إثم عليه فى ذلك إذا عدل بينهن فى القسمة والنفقة‏.‏

وقول سفيان‏:‏ أنه رأى قبر النبى صلى الله عليه وسلم مسنمًا، فقد روى ذلك عن غيره‏.‏

قال الطحاوى‏:‏ وقد قال إبراهيم النخعى‏:‏ أخبرنى من رأى قبر النبى صلى الله عليه وسلم وصاحبيه مسنمة ناشزة من الأرض عليها مرمر أبيض‏.‏

وقال الليث‏:‏ حدثنى يزيد بن أبى حبيب أنه يستحب أن يسنم القبر، ولا يرفع، ولا يكون عليه تراب كثير‏.‏

وهو قول الكوفيين والثورى أن القبور تسنم، وإن رفع فلا بأس‏.‏

وقال ابن حبيب مثله‏.‏

وقال طاوس‏:‏ كان يعجبهم أن يرفع القبر شيئًا حتى يعلم أنه قبر‏.‏

وقال الشافعى‏:‏ تسطح القبور ولا تبنى ولا ترفع، تكون على وجه الأرض نحوًا من شبر، قال‏:‏ وبلغنا أن النبى صلى الله عليه وسلم سطح قبر ابنه إبراهيم، وأن مقبرة المهاجرين والأنصار مسطحة قبورهم‏.‏

وقال أبو مجلز‏:‏ تسوية القبور من السُّنة‏.‏

واحتج أيضًا بحديث القاسم بن محمد، وأنه رأى قبر النبى صلى الله عليه وسلم وصاحبيه لاطية بالأرض مسطوحة بالبطحاء، وقد بَيَّنَت عائشة العِلَّة فى البناء على قبره وتحظيره وذلك خشية أن يتخذ مسجدًا‏.‏

باب مَا يُنْهَى عنه مِنْ سَبِّ الأمْوَاتِ

- فيه‏:‏ عَائِشَةَ، قَالَتْ‏:‏ قَالَ النَّبِىُّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏لا تَسُبُّوا الأمْوَاتَ، فَإِنَّهُمْ قَدْ أَفْضَوْا إِلَى مَا قَدَّمُوا‏)‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ هذا الحديث مثل قول عائشة‏:‏ كفوا عن ذى قبر‏.‏

قال بعض العلماء‏:‏ معناه من أهل الإيمان، وقد ذكرت عائشة فى هذا الحديث علة الإمساك عن ذى قبر، وهو قولها‏:‏ فإنهم قد أفضوا إلى ما قدموا، يعنى إلى ما عملوه من حسن أو قبيح، وقد أحصاه الله ونسوه، وقد ختم الله لأهل المعاصى من المؤمنين بخاتمة حسنة تخفى عن الناس، فمن سبهم فقد أثم، وقد جاء أنه لا يجب القطع على أحد بجنة ولا نار، وقد قال صلى الله عليه وسلم فى الميت الذى شهد له بالجنة‏:‏ ‏(‏والله ما أدرى وأنا رسول الله ما يفعل بى‏)‏‏.‏

فلهذا وجب الإمساك عن الموتى، والله أعلم‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ إن قيل‏:‏ قد ذكر الله عز وجل، فلتات خطايا الأنبياء فى كتابه وهم أموات، وجعلها قراءة تتلى‏.‏

قيل‏:‏ لا معارضة لك بذلك؛ لأن الله تعالى إنما ذكر خطاياهم موعظة لخلقه، ليرى المذنبين أنه قد عاتب أنبياءه وأصفياءه على الفلتة من الذنوب، ليحذر الناس المعاصى وليعلموا أنهم أحق بالعقاب من الأنبياء ليزدجروا، وأيضًا فإن لوم تلك الذنوب قد سقط عن الأنبياء بإعلام الله لنا فى كتابه بتوبتهم منها، وغفرانه إياها لهم، وأيضًا فإنه تعالى جعل عقابهم على تلك الفلتات فى الدنيا رحمة لهم، ليلقوه مطهرين من تلك الذنوب، وموتانا بخلاف ذلك لا نعلم ما أفضوا إليه، فلذلك نهينا عن ذكرهم بذنوبهم، وقد تقدم فى باب ‏(‏ثناء الناس على الميت‏)‏ إشباع القول فيمن يجب ذكره بذنبه، ومن يجب الإمساك عنه، وبالله التوفيق‏.‏

باب ذِكْرِ شِرَارِ الْمَوْتَى

- فيه‏:‏ ابْنِ عَبَّاس، قَالَ أَبُو لَهَبٍ لِلنَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم‏:‏ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ، فَنَزَلَتْ‏:‏ ‏(‏تَبَّتْ يَدَا أَبِى لَهَبٍ وَتَبَّ‏}‏ ‏[‏المسد‏:‏ 1‏]‏‏.‏

قال المؤلف‏:‏ ذكر شرار الموتى من أهل الشرك خاصة جائز، لأنهم لا شك أنه مقطوع عليهم بالخلود فى النار، فذكر شرارهم أيسر من حالهم التى صاروا إليها، مع أن فى الإعلان بقبيح أفعالهم مقبحًا لأحوالهم وذمًا لهم، لينتهى الأحياء عن مثل أفعالهم ويحذروها، جَنَّبنا الله أفعال الكفار، وأجارنا من النار‏.‏

قال عبد الواحد‏:‏ عجبًا من البخارى فى تخريجه لهذا الحديث فى هذا الباب، وإن كان تبويبه له يدل على أنه أراد به العموم فى شرار المؤمنين والكافرين، وأظنه نسى الحديث الذى أورده فى باب ‏(‏ثناء الناس على الميت‏)‏ فكان أولى بهذا، وهو حديث أنس‏:‏ ‏(‏أنهم مروا بجنازة فأثنوا عليها خيرًا، فقال‏:‏ وجبت‏.‏‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الحديث، فترك النبى صلى الله عليه وسلم نهيهم عن ثناء الشر، ثم أخبر أنه بذلك الثناء الشر وجبت له النار، وقال‏:‏ ‏(‏أنتم شهداء الله فى الأرض‏)‏، فدل ذلك أن للناس أن يذكروا الميت بما فيه من شر إذا كان شره مشهورًا، وكان مما لا غيبة فيه لشهرة شره، وقد تقدم فى باب ‏(‏ثناء الناس على الميت‏)‏ الكلام فى الجمع بين هذا الحديث وبين قوله‏:‏ ‏(‏لا تسبوا الأموات‏)‏، وبالله التوفيق‏.‏

وقال صاحب ‏(‏العين‏)‏‏:‏ تب الإنسان‏:‏ ضعف وخسر، قال الراجز‏:‏ أحسن بها من صفقة لم تستقل تبت يدا صافقها ماذا فعل وتب‏:‏ هلك، وفى القرآن‏:‏ ‏(‏وما كيد الكافرين إلا فى تباب‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 37‏]‏، وتَبَّ الإنسان‏:‏ شاخ‏.‏

الجزء الثاني من كتاب شرح البخاري تأليف الشيخ الإمام العالم الفاضل أبي الحسن علي ابن خلف بن عبد الملك بن بطال يعرف بابن اللحام من أهل قرطبة رضي الله عنه‏.‏